الاجتهاد بین مُقتضى تَغیّر الواقع وضرورة تجدید قراءة النصوص
الدکتور العیاشی الدراوی[1]
خلاصة:
من الإشکالیّات المحوریّة التییمکن طرحها على البحث الاجتهادی المعاصر: ما حقیقة الاجتهاد وجدواه؟ وما علاقته بالتجدید؛ سواء أفی فهم النصوص أم فی استیعاب متغیّرات الواقع؟ ولا سیما بمراعاة عدم انفکاک مفهوم الاجتهاد عن خصائص الدین الإسلامیّ الکبرى: الختم، والأبدیّة والخلود، والعموم أو الإحاطة، وعدم انفکاک أمر التجدید عن الاجتهاد المطلوب،إلى مرحلة قد تصل فیها علاقة الاجتهاد بالتجدید إلى حدوث أحدهما فی الآخر؛ فقد یقع التجدید فی الاجتهاد نفسه، فیغیّر المجتهد رأیه، وذلک حسب الزمن والحاجة والمصلحة، وهو ما یسمّى بـ "تجدید الاجتهاد"، الذی یشکّل مفتاح کلّ تطوّر وتحدیث.
فالاجتهاد المطلوب الیوم هو ذاک الذی یوازن بین "فقه النصّ" من جانب، و"فقه الواقع" من جانب آخر، على نحو یستجیب لحیویّة تجدّد الوقائع والأحداث؛ مثلما یبعد الجمود والتقلید عن فهم النصوص.
وإنّ أیّ مجهود تجدیدیّ فی المجال الفقهیّ یروم إعادة ترمیم الأنموذج الموروث وإعادة توجیهه، هو مطالب بأن یبتعد-ما أمکنه الابتعاد- عمّا یسمّى بـ "فقه المبانی"، الذی من أبرز سماته الانحصار ضمن دائرة ألفاظ النصّ ودلالاته اللغویّة والمنطقیّة والأصولیّة، دون الارتباط بالواقع ومتعلّقاته، على عکس "فقه المعانی" المثبّتة رکائزُه فی الواقع، والموصول بمقاصد النصّ وروح التشریع والحکمة العامّة التی یهدف النصّ أو التشریع العامّ إلى تحقیقها فی مثل هذا الواقع. ولا یعنی هذا إهمال "فقه المبانی"، وإبطال فاعلیّته والعمل به؛ بل یکون هو الأساس للنصّ الجدید المشرّع، وحیاً کان أم وضعاً، لواقعة محدّدة. على أن لا یکون هذا الفقه منهج فرد أو طریقة شخص؛ بل یقتضی وجود مجمع فقهیّ إسلامیّ عالمیّ یُعتمد فی ضبط الاجتهاد، وفقاً لمقاصد الشریعة الحقّة، لا وفق المیول المذهبیّة أو الأهواء الشخصیّة؛ حتى لا یسود التسیّب فی الاجتهاد، ولا تعمّ الفوضى فی مجال الفقه والفتوى.
مصطلحات مفتاحیّة:
الاجتهاد، الواقع، الزمان، المکان، تجدید القراءة، تجدید الفهم،تجدید الاجتهاد، مقاصد الشریعة، ثوابت الشریعة، روح الشریعة، فقه الواقع، فقه النصّ، فقه المبانی، فقه المقاصد، الاجتهاد العملیّ، الاجتهاد المقلِّد.
مقدّمة:
من الثابت تاریخیّاً أنّ انطلاق الدعوة الإسلامیّة جاء مترافقاً مع حرکة اجتهاد فقهیّ عامّ کانت الغایة منها مواکبة متغیّرات حیاة المسلمین والاستجابة لإشکالاتهم وانشغالاتهم المتجدّدة، وذلک من خلال مقاصد الشریعة الإسلامیّة، وفی ضوء ثوابتها وأسسها، الأمر الذی ساهم فی تنمیة الفکر الدینیّ وتجدیده من جهة، وخلق تناغماً کبیراً بین النصّ الدینیّ والواقع الاجتماعیّ، من جهة ثانیة، لکنْ ما یؤسف له أنّ منسوب الاجتهاد -مع ازدهار الحضارة الإسلامیّة- تراجع وضاق نطاقه، فتجمّدت الأفکار، وقَلّ الإبداع والتجدید، وبالتالی سادت قراءات معیّنة (موروثة) لجملة من النصوص الدینیّة، وسیطرت تأویلات وتفسیرات مخصوصة لها، إلى حدّ أصبح فیه الفکر الدینیّ- على هذا المستوى- مرادفاً للجمود والتخلّف و"اللاعقل".
ضمن هذا الإطار العامّ تتوخّى هذه المقالة إبراز أهمّیّة استئناف الاجتهاد فی قضایا الدین فی عالم الیوم، وفق ما تقتضیه متغیّرات الواقع، وتوجبه طبیعة النصوص الشرعیّة التی هی أوسع من أن تُربط بزمان معیّن أو تُقرن بمکان مخصوص.
وعلیه، فإنّ الإشکال المحوریّ الذی نسعى إلى الإجابة علیه فی هذا النطاق هو: ما حقیقة الاجتهاد وجدواه، وما علاقته بالتجدید؛ سواء أفی فهم النصوص أمفی استیعاب متغیّرات الواقع؟
أولاً: حقیقة الاجتهاد وجدواه:
یمثّل الاجتهاد روح الشریعة الإسلامیّة، ومنبع الحیاة لفقهها، ومخزون الطاقة الأثْرى لاستمرارها وتجدّدها، لذا لا یُتصوَّر أن تؤدّی الشریعة وظیفتها، وأن یکون لها فقه حیّ مرن ینظّم مصالح الخلق على سبیل الدوام من دون إعمال الاجتهاد، وإحیاء شروطه الثقافیّة والاجتماعیّة[2].
ولعلّ ما یقوم دلیلاً ساطعاً على أنّ الاجتهاد بمنزلة روح الشریعة وسبیل مرونتها وجدتها أنّه لا ینفصل أبداً عن مشروع الإسلام نفسه ومهمّته وخصائصه، فالسؤال الذی یتبادر إلى الذهن هاهنا هو: ما مقصود الشریعة من الخلق؟ وما الغایة من وضع الشریعة کلّها؟[3] یقول الأصولیّون فی هذا الصدد: "الشریعة جاءت لمصالح الخلق فی عاجلهم وآجلهم"، ویقول الشیخ الطاهر بن عاشور: "إذا نحن استقرینا موارد الشریعة الإسلامیّة الدالّة على مقاصدها من التشریع؛ استبان لنا من کلّیّات دلائلها ومن جزئیّاتها المستقرأة أنّ المقصد العامّ من التشریع هو حفظ نظام العالم، واستدامة صلاحه بصلاح المهیمن علیه؛ وهو نوع الإنسان"[4].
ومؤدّى هذا أنّ فعل الاجتهاد هو الذی یعطی للشریعة خصوبتها وثراءها، ویُمَکّنها من قیادة زمام الحیاة إلى ما یحبّ الله ویرضى، من دون تفریط فی حدود الله، ولا تضییع لحقوق الإنسان، خاصّة إذا کان اجتهاداً صحیحاً مستوفیاً لشروطه صادراً من أهله فی محلّه[5]. ولیس غریباً أن تلتقی کلمة "اجتهاد" مع جذر کلمة "جهاد" نفسه، فکلا المفهومین یکمّل الآخر ویخدمه؛ أمّا الاجتهاد فهدفه معرفة الهدى ودین الحقّ الذی أرسل به رسوله (ص)، وأمّا "الجهاد" فهدفه حمایة الدین والدفاع عنه. ومن هنا، إذا کان میدان المفهوم الأوّل الفکر والنظر؛ فإنّ میدان المفهوم الثانی هو العمل والسلوک. ومعنى هذا أنّ الاجتهاد هو وجه من وجوه الجهاد العلمیّ، کما إنّ الجهاد هو صورة من صور الاجتهاد العملیّ؛ ودلیل ذلک أنّ ثمرات الاجتهاد یمکن أن تضیع إذا لم تجد من أهل القوّة من یتولّى تنفیذها، کما إنّ مکاسب الجهاد یمکن أن تضیع هی کذلک؛ إذالم تجد من أهل العلم من یضیء لها الطریق[6].
بناءً علیه، فإنّ خصائص الدین الإسلامیّ الکبرى لا تنفکّ -صراحة أو ضمناً- عن مفهوم الاجتهاد؛ بحکم أنّ کلّ خاصّیّة من خصائصه الثلاث -کما سنبیّن- توجب فتح باب الاجتهاد، وتقتضی السیر فی مسالکه؛ لأنّ الکفَّ عن ذلک یفضی حتماً إلى تضییق دور الشریعة فی الواقع الاجتماعیّ، وتشویه تصوّرات الناس عن روح الدین وحقیقته، وبیان ذلک فی الآتی[7]:
1. إنّ من خصائص الدین الإسلامیّ خاصیّة الختم؛ فالإسلام هو آخر الشرائع، والنبی محمد (ص) هو خاتم الرسل. ولا یخفى أنّ "للخاتمیّة" معنى عمیقاً وارتباطاً وثیقاً بمشروعیّة أصل الاجتهاد. وقد وقف عنده بشکل مطوّل محمد إقبال فی کتابه "تجدید الفکر الدینیّ"، إذ جعل خصیصة ختم النبوّة أو الخاتمیّة هی روح النظام الثقافیّ للإسلام، وجعل فی المقابل مبدأ الاجتهاد أساس الحرکة لبناء مشروع الإسلام الاجتماعیّ العامّ.
2. إنّ من أهمّ ممیّزات الإسلام هی الأبدیّة والخلود؛ أی إنّ رسالة الإسلام لیست موصولة بزمن محدّد، أو فترة زمنیّة خاصّة؛ وإنّما هی رسالة خالدة أبد الدهر. ولذلک نجد بعض العلماء یستدلّون بمقولة: "إنّ الله یبعث لهذه الأمّة على رأس کلّمئة سنة من یجدّد لها أمر دینها"، على أنّه لا یخلو زمان من قائم لله بحجّة، وأنّ الأمّة لا بدّمن أن یوجد فی علمائها قائم مجتهد.
3. من خصائص الإسلام -أیضاً- العموم أو الإحاطة؛ أی قدرة النظام الشرعیّ على استیعاب جمیع صور الحوادث الواقعة أو المتوقّعة، والاستجابة لکلّ عصر وقضایاه؛ ذلک أنّ الاجتهاد جزء من "النسق الأصولیّ الفقهیّ". وهذا النسق بطبیعته نسق مفتوح له طابع استنباطیّ. ومعلوم أنّ الطابع الاستنباطیّ هو سمة معظم الأنساق القانونیّة الحدیثة، وهو الذی یلزم القاضی بالحکم فی أیّ مسألة أو نازلة للفصل فیها، حتى لولم یکن ثمّة نصّ صریح یشملها. فالقاضی الذی یرفض أن یحکم متعلّلاً بسکوت المشرّع أو غموض النصّ القانونیّ أو عدمه، یُعَدّ مرتکباً لجریمة إنکار العدالة. وکذلک نسق الاجتهاد الشرعیّ بقواعده ومدارکه ووجوه النظر فیه؛ هو نسق مفتوح قادر على استیعاب القضایا المتجدّدة، والأوضاع الاستثنائیّة، وإیجاد الحلول المناسبة، واقتراح الصیغ الملائمة لها، وهذا ما یشیر إلیه الشافعی بقوله: "فلیست تنزل بأحد من أهل دین الله نازلة؛ إلا وفی کتاب الله الدلیل على سبیل الهدى فیها"[8].
إنّ الشریعة الإسلامیّة "هی خاتمة الشرائع التی تحمل الهدایة الإلهیّة للبشر، قد خصّها الله بالعموم والخلود والشمول والخاتمیّة، فهی رحمة الله للعالمین من کلّ الأجناس، وفی کلّ البیئات، وکلّ الأقطار، إلى أن تقوم الساعة، ولکلّ مجالات الحیاة المتنوّعة؛ لهذا أودع فیها من الأصول والأحکام ما یجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الإنسانیّة المتجدّدة على امتداد الزمان، واتّساع المکان، وتطوّر الإنسان"[9]؛ بشرط أن تُتلقّى بعقل اجتهادیّ تجدیدیّ، وتُقابل بمنطق تحویلیّ إبداعیّ قوامهما الإضافة والإثراء، والتغیّر والاختلاف، ولیس التقلید والتکرار، کما هو حاصل الیوم فی مجال الفکر الإسلامیّ. فممّا لا یخفى أنّ فی التقلید المفرط إضراراً بالشریعة، لا یقلّ خطراً عن الإضرار بالعقل، أو لنقل إنّ فی ذلک تقویضاً للعقل والنقل على حدّ سواء؛ما یعنی أنّ تعطیل مبدإ الاجتهاد هو فی حقیقته حدّ من الطاقة الدلالیّة للنصّ من جانب، وإبطال لفاعلیّة العقل فی الفهم والتأویل من جانب آخر.
وبالنظر إلى قیمة الاجتهاد المعتبرة فی دائرة الدین الإسلامیّ، وأهمّیّته فی مسایرة متغیّرات الواقع ومتطلّبات الحیاة، نجد أنّ الرسول الکریم (ص) قد شجّع علیه فی أکثر من حال، وأقرّه فی أکثر من موقع؛ سواء أکان اجتهاداً صائباً أم خاطئاً، ومن الأحادیث الواردة فی هذا الباب حدیث النبی (ص) المروی فی الصحیحین وغیرهما: "إذا حکم الحاکم ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حکم فاجتهد وأخطأ فله أجر". وهذا الحدیث لم یکتفِ بفتح باب الاجتهاد وتقریر جوازه؛ بل نراه یفتحه ویغری به ویدفع إلیه دفعاً[10].
وأمّا إذْنُ النبی الأکرم (ص) لصحابته بالاجتهاد، فیؤکّده حدیث معاذ بن جبل، حین بعث به إلى الیمن، قال له (ص): "کیف تصنع إذا عرض علیک قضاء؟ قال أقضی بما فی کتاب الله. قال: فإنْ لم یکن فی کتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله. قال: فإنْ لم یکن فی سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأیی ولا آلو. فضرب رسول الله (ص) على صدره، وقال: الحمد لله الذی وفّق رسول رسول الله لما یُرضی رسول الله"[11].
وغنیّ عن البیان فی هذا المقام أنّ التشجیع على الاجتهاد لیس فی جوهره إلا تشجیعاً لحرکة العقل فی اتّجاه النصّ الشرعیّ، وترسیخاً لمبدأ المراجعة النقدیّة لبعض الأحکام التی یفرضها اختلاف العادات وتنوّع السیاقات التی تمّت فی نطاقها عملیّة الاجتهاد نفسها. ومعنى هذا أنّ أیّ اجتهاد هو من حیث المبدأ قابل للمراجعة التقویمیّة، محکوم بالتغیّر والتجدّد. یقول شهاب الدین القرافی مشیراً إلى تغیّر الاجتهاد بتغیّر العرف: "إنّ إجراء الأحکام التی مدرکها العوائد مع تغیّر تلک العوائد، خلاف الإجماع وجهالة فی الدین؛ بل کلّ ما هو فی الشریعة یتبع العوائد: یتغیّر الحکم فیه عند تغیّر العادة إلى ما تقتضیه العادة المتجدّدة... هذه قاعدة اجتهد فیها العلماء وأجمعوا علیها"[12]. وإلى هذا المعنى ذهب ابن القیّم فی "أعلام الموقعین"، حیث قال: "مَنْ أفتى الناس بمجرّد المنقول من الکتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمکنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضلّ وأضلّ، وکانت جنایته على الدین أعظم من جنایة من طبّب الناس کلّهم (بدواء واحد)"[13].
ثانیاً: الصلة بین الاجتهاد والتجدید:
إنّ مختلف التحدیدات التی أعطیت لمفهوم الاجتهاد؛ إنّما تدلّ فی مجملها على بذل أقصى ما یمکن من الجهد، وصرف أکثر ما یُستطاع من الطاقة الذهنیّة والفکریّة لأجل الظفر بجدید، والإتیان بمفید یحلّ إشکالاً أو یذلّل صعوبة حادثة. ویعرّف فخر الدین الرازی الاجتهاد بأنّه"استفراغ الوُسع فی النظر فیما لا یلحقه فیه لوم، مع استفراغ الوسع فیه"[14]. أمّا عند ابن حزم؛ فهو "استنفاد الطاقة فی طلب حکم النازلة، حیث یوجد ذلک الحکم"[15]، وهو -أیضاً- فی اصطلاح بعض الأصولیّین المحدثین: "استفراغ الوسع، وبذل غایة الجهد؛ إمّا فی إدراک الأحکام الشرعیّة، وإمّا فی تطبیقها"[16].
وهنا تتبدّى مسألة فی غایة الأهمّیّة؛ وهی العلاقة الجدلیّة القائمة بین الاجتهاد من ناحیة والتجدید من ناحیة أخرى؛ بما یعنی أنّه لا تجدید إلا إذا استند إلى اجتهاد، ولا اجتهاد إلا إذا أفضى إلى جدید (نظریّ أو عملیّ). وإذا کنّا قد أوضحنا معنى الاجتهاد وحقیقته، فجدیر بنا تحدید معنى "التجدید" أیضاً؛ لتوضیح العلاقة بینهما، وتعیین حدودها.
التجدید لغةً مأخوذ من جدد، والجِدُّ الاجتهاد فی الأمر، وقد جَدَّ به الأمر إذا اجتهد، وفلان جَادٌّ أی مجتهد، ویقال أَجَدَّ یَجِدُّ إذا صار ذا جِدٍّ واجتهاد، والجِدَةُ ضدّ البلى، والشیء یَجِدُّ فهو جدید[17].
أمّا التجدید فی الاصطلاح العامّ فـ "لا یعنی التخلّص من القدیم أو محاولة هدمه؛ بل الاحتفاظ به وترمیم ما بلی منه، وإدخال التحسین علیه"[18]. فدلالات التجدید هذه؛ اللغویّة منها والاصطلاحیّة، تؤول إلى معنى الاجتهاد الذی یدلّ على مرونة الشریعة وصلاحیّتها لکلّ زمان ومکان، کما یدلّ على ثرائها وکمالها؛ مقارنة مع ما یسنّه البشر من قوانین وضعیّة[19].
وعلیه، إذا کنّا قد شدّدنا سلفاً على أنّ الاجتهاد ینزّل منزلة القلب من جسد الشریعة الإسلامیّة؛ فإنّه -أیضاً- یمنحها دوام الأهلیّة لاستیعاب کلّ جدید، ویعطیها استمرار القابلیّة لاحتضان کلّ طارئ؛ سواء أعَلى المستوى النظریّ أم فی الواقع العملیّ. ومن هنا، یکون الاجتهاد هو السبیل إلى کلّ تجدید مطلوب، والمسلک إلى کلّ تغییر منشود.
إنّ أمر التجدید یکاد لا ینفکّ عن الاجتهاد المطلوب، فالاجتهاد من طرق تجدید أمر هذا الدین، ویدخل فی أمر تجدید الدین -عند کثیرین- توضیح ما أبهمه الجهل بتعالیمه، وتمکین ما زحزحه التهاون من أمره، وتحسین الربط بین أحکامه وبین ما تحدثه الدنیا من أقضیته، وتنزیل أحوال الحیاة المعاصرة على مقتضیات القواعد العامّة والمصالح المرسلة[20].
وهذا کلّه من وظائف الاجتهاد، وقد تصل علاقة الاجتهاد بالتجدید -کما سبقت الإشارة- إلى حدوث أحدهما فی الآخر؛ فقد یقع التجدید فی الاجتهاد نفسه، فیغیّر المجتهد رأیه، وذلک حسب الزمن والحاجة والمصلحة، وهو ما یسمّى بـ "تجدید الاجتهاد"، الذی یشکّل مفتاح کلّ تطوّر وتحدیث.
ولا یخفى على الناظر فی تاریخ الأمّة الإسلامیّة "أنّ عصور الاجتهاد؛ إنّما کانت هی عینها عصور الازدهار الحضاریّ، وما إن أخذ مسار الأمّة ینحطّ حتى أصیب الفکر بالجمود، ونادى المنادی بإغلاق باب الاجتهاد. فالنشاط الفکریّ مظهر بارز من مظاهر تقدّم الأمم، وهو لا ینفکّ عن أوضاعها السیاسیّة والثقافیّة والاجتماعیّة. والاجتهاد هو رکن العمران الرکین الذی لا یمکن أن ترتقی أمّة ولا ینتظم أمر حکومة مدنیّة بدونه؛ بل إنّ وجود السیاسة الحقّ والإمامة الحقّ -کما یقول رشید رضا- یتوقّف على هذا الاجتهاد"[21].
ثالثاً: تخلّف فقه النصّ عن فقه الواقع:
لعلّما ساهم فی غیاب مصدریّة الواقع فی استنباط الأحکام وتنزیلها، وساهم أیضاً، فی تعمیق الفجوة بین فقه النصّ من ناحیة، وفقه الواقع من ناحیة أخرى، وبالتالی تخلّف المنظومة الفقهیّة والأصولیّة عن واقع الناس وحیاتهم؛مجموع عاملین اثنین، هما:
1. الجمود والتقلید: فالجمود والتقلید علّة من العلل الفکریّة الطارئة على الأمّة، وأخطارُها لا تقتصر على کونها تُوقف حرکیّة وفعّالیّة العقل المسلم الذی أُنیطَ به واجبُ التفکیر والتدبّر والاعتبار والفقه والتعقّل والاجتهاد والتجدید فی العلم بالدین والعمل به،بما هو منصوص فی الکتاب والسنّة؛ بل تعدّى الأمر ذلک إلى توقّف مواکبة حرکة الفقه الشرعیّ للواقع المتغیّر المتجدّد. فالأصل فی الفقه -بوصفه فهماً لما ورد عن الله تعالى فی کتابه- أن یؤطّر بالشرع الخالد حرکة الواقع ومستجداته ونوازله فی کلّ زمان ومکان. لکنْ عندما تتوقّف حرکة الفقه عند قرن معیّن، فتعمد إلى استهلاک مقرّراته والالتزامبعدم الخروج علیها، فها هنا یتمّ عزل الفقه عن الواقع، فیغدو الفقه شیئاً والواقع شیئاً آخر. وهذا واضح فی عصرنا الیوم؛ حیث ما زالت تُدرَّس بیوع ومعاملات مالیّة وقضایا أسریّة واجتماعیّة وغیرها، بمقرّرات فقه سابق، وبألفاظه واصطلاحاته القدیمة الموروثة؛ ما یجعله عاجزاً عن التأطیر والمواکبة، ومستعصیاً على الفهم والاستیعاب، کما یجعل حرکیّة تنزیله -کما هو- تسفر عن آفات وطامات فردیّة واجتماعیّة. فکثیر من الصراعات والمشکلات والخصومات الواقعة الآن هی نتیجة فهم وفقه سیّئ للواقع من ناحیة، ونتیجة استصحاب أقوال وفتاوى جامدة قیلت فی سیاقات تاریخیّة معیّنة مختلفة تمام الاختلاف من ناحیة أخرى.
ولهذا، فإنّ التحرّر من آفّة الجمود والتقلید، واکتساب مهارات الاجتهاد والتجدید، هو وحده الکفیل بتحریک العقل المسلم من جدید، وجعله مسایراً لحرکیّة الزمان والمکان، ضابطاً لسیاقات الواقع والفقه على حدّ سواء، قادراً على تحقیق متطلّبات التنزیل، ومنسجماً مع متطلّبات التشریع[22].
2. الصوریّة والتجرید:
لا تقلّ هذه الآفة خطورة عن سابقتها؛ وإنّما تتفوّق علیها بلحاظ الضرر الناجم عنها. فإذا کانت المشکلة الأولى تعکس جمود العقل الفقهیّ، وبالتالی عدم قدرته على مواکبة الواقع؛ فإنّ الثانیة تعکس نموّ فکر لا علاقة له بالواقع أصلاً. والمقصود هنا أساساً علم الکلام أو أصول الدین، وبعده بدرجة أقلّ علم أصول الفقه. ولکنّ هذا الحکم لیس مطلقاً؛ فمن المعلوم أنّ بدایة علم أصول الدین إنّما کانت فی ظلّ ظروف وتحدّیات عرفها واقع الأمّة الإسلامیّة، وعرفتها عقیدة الأمّة؛ حیث انبرى للدفاع عنها والردّ على الخصوم بمختلف المناهج العقلیّة والنقلیّة. لکنْ-کما یرى مؤرّخو هذا العلم-ممّا لا شکّفیه أنّ توغّل الفکر الفلسفیّ الیونانیّ وشیوع الأقیسة المنطقیّة، مضافاً إلى انتشار الفکر الصوریّ المسیحیّ؛ کلّ ذلک لعب دوراً کبیراً فی نقل هذا العلم من الارتباط بقضایا واقع الأمّة إلى التجرید والصوریّة؛ إلى درجة -کما یقول ابن خلدون-أن "اختلطت فیها الطریقتان: طریقة المتکلّمین وطریقة الفلاسفة، حیث التبست مسائل الکلام بمسائل الفلسفة". ونتیجة لهذا غدت حرکیّة الواقع بدون علاقة لها مع العقیدة، وصارت حرکة الفقه وتنزیل الأحکام منفصلة کذلک عن أطرها العقدیّة، وأشبه ما تکون بمساطر وبنود شکلیّة، أو فی أحسن الأحوال شبه عاریة عن منطلقاتها ومقاصدها ومآلاتها[23].
یقول عبد المجید النجّار مشخّصاً هذه الحالة: "إنّ الانحدار العامّ الذی أصاب الفکر الإسلامیّ أصاب الفکر الکلامیّ أیضاً، فأصبح ینزع منزع التجرید الذی ینشغل به عن مجریات الواقع المتعلّقة بالأصول العقدیّة بصفة مباشرة أو غیر مباشرة، بمجادلات نظریّة فی المسائل القدیمة، واحتجاجات تتعلّق بتحدّیات ماضیة، ومیل إلى التألیف وترتیب الآراء والمقولات السابقة فی نسق منطقیّ مدرسیّ. حتى لیمکن القول إنّ الصلة کادت تُفقَد بین هذا الفکر وبین واقع المسلمین الذی لم یَخلُ فی أیّ عصر من تحدّیات داخلیّة وخارجیّة تهدّد مرجعیّته العقدیّة"[24].
ما من شکّ أنّ واقع حال علم أصول الفقه لا یختلف کثیراً عن هذا السیاق، خاصّة بعد أن ترسّخ الجمود والتقلید على ما استقرّ علیه فی إطار المذاهب المشهورة. ولم تبقَ حرکة التأصیل، والاستنباط، وتفعیل القواعد، ومراجعة بعض الأحکام عملاً متجدّداً مواکباً للتطوّرات والمستجدّات؛ بل إنّ صوریّة هذا الأصل وتجریدیّته -وإنْ کانت أقلّ حدّة من سابقه- تغذّت هی کذلک من الحلول والأقیسة المنطقیّة والتوسّع فیها منذ وقت مبکر؛ تعریفاً وتصنیفاً وتألیفاً؛ إلى درجة جعلت الغزالی صاحب "معیار العلم" یذهب إلى "أنّ من لا یحیط بهذه المقدّمات المنطقیّة فلا ثقة بعلومه أصلاً"[25].
رابعاً: مدى الحاجة إلى الاجتهاد العملیّ:
إنّ من أهمّ الإشکالات التی یواجهها الفکر الاجتهادیّ الإصلاحیّ المعاصر هی مشکلة ردّ الاعتبار إلى واقعیّة الأحکام الشرعیّة؛ بما فی ذلک خلفیّاتها العقدیّة، من خلال التحقّق بفقه الواقع، وقبله بفقه الشرع؛ لتحقیق مناطات التنزیل، بالنظر إلى ما هو حاصل من انفصال المشرِّع عن تأطیر الواقع، ومن بقاء الکثیر من المجالات بعیدة عن توجّهاته؛ الأمر الذی یؤثّر حتماً فی منهجیّة تنزیل الأحکام على واقع الناس، وذلک -کما سبق التوضیح- بسبب غیاب فقه الواقع على امتداد قرون الانحطاط فی الأمّة؛ لمّا بقی الفکر والفقه معاً مجرّدین عن عنصر الواقعیّة فی الفهم والتنزیل[26].
ولهذا، فإنّ الاجتهاد المطلوب الیوم هو ذاک الذی یوازن بین فقه النصّ من جانب، و"فقه الواقع" من جانب آخر، على نحو یستجیب لحیویّة تجدّد الوقائع والأحداث؛ مثلما یبعد الجمود والتقلید عن فهم النصوص. وکما سیتّضح لاحقاً، فإنّ من جملة ما وقع فیه الفکر الأصولیّ القدیم من أخطاء، قیام کثیر من تنظیراته على أساس الفهم (الاستنباط)، لا على أساس التنزیل (التطبیق).
وممّا لا یحتاج إلى برهان فی هذا النطاق، أنّ "الاجتهاد فی التفهّم والاستنباط لیس بأولى من الاجتهاد فی التطبیق؛ إنْ لم نقل إنّ قیمة الاجتهاد عملیّاً إنّما تنحصر فیما یؤدّی إلیه من ثمرات فی تطبیقه، تحقّق مقاصد التشریع وأهدافه فی جمیع مناحی الحیاة"[27]. و"المجتهد الحقّ هو الذی ینظر إلى النصوص والأدلّة بعین، وینظر إلى الواقع والعصر بعین أخرى؛ حتى یوائم بین الواجب والواقع، ویعطی لکلّ واقعة حکمها المناسب؛ لمکانها، وزمانها، وحالها"[28]. ووفق ذلک "ینبغی أن تکون الفتوى، یزدوج فیها فقه الدین وفقه الحیاة. وبدون معرفة الناس ومعایشتهم فی واقع حیاتهم، یقع المفتی فی متاهات أو یهوم فی خیالات، فهو لا یعرف إلا ما یجب أن یکون دون ما هو کائن"[29].
فی سیاق هذه الرؤیة التصحیحیّة لمسارات الفکر الاجتهادیّ وتوجیه البحث الفقهیّ المعاصر لیتحرّر ممّا أعاق نموّه سابقاً، وحوَّله إلى صیغ جامدة، ومدوّنات ناجزة، مکتفیة بنفسها، مفصولة عن واقعها، عدیمة الأثر فیه؛ فی سیاق هذا کلّه، نقترح التوقّف مع الشیخ محمد مهدی شمس الدین، الذی قام برصد جملة من الاختلالات التی حصلت فی مناهج الاجتهاد الفقهیّ والأصولیّ، نوجزها فی الآتی:
1. هیمنة النظرة الفردیّة التجزیئیّة وغیاب الرؤیة الشاملة، وهو أمر حصل حین انعزل الفقه عن حرکة المجتمع واستغرق الفقهاء فی معالجة المسائل التی یواجهها الفرد المسلم فی حیاته الخاصّة، فی عباداته ومعاملاته. وحتى عندما اقتربوا من المسائل العامّة وقضایا المجتمع؛ نجد أنّهم عالجوها من زاویة معاناة الأفراد، ومن جهة تأثیرها فی حیاة المسلم الفرد، ولم یلحظوا تأثیرها فی المجتمع والأمّة، کما هو مطلوب.
2. اعتبار الخطابات للأفراد، وإغفال -بل إهمال- خطابات الأمّة والجماعة. والغریب –فیما یراه الشیخ شمس الدین- أنّ الفقهاء لم ینتبهوا إلى أنّ الکتاب والسنّة حافلان بالخطابات الموجّهة إلى الأمّة؛ باعتبارها مکلّفة، فی مقابل عدِّهم أنّ الخطابات الشرعیّة کلّها موجّهة إلى الأفراد، وحتى ما أسموه "تکالیف کفائیّة" أدخلوه فی إطار خطابات الأفراد.
والحال أنّ الشریعة إنّما اشتملت على صنفین من الخطابات التکلیفیّة: خطابات للأفراد، وخطابات للأمة؛ بل إنّ تلک الموجّهة إلى الأمّة والجماعة کثیرة جدّاً، وهی خطابات عینیّة تعیینیّة للأمّة والجماعة فی الاجتماع السیاسیّ، ضمن صیغة المجتمع، وضمن صیغة الدولة أیضاً.
3. اعتبار الشریعة مشروعاً أخرویّاً فقط؛ بمعنى أنّ الشریعة تحوّلت-بسبب انحراف الحکم السیاسیّ وفساد المجتمع فی مراحل تاریخیّة محدّدة- إلى مشروع أخرویّ یسعى المسلم عن طریقه إلى الخلاص والنجاة فی الآخرة فقط، دون أن یکون له أثر یُذکَر فی الحیاة الدنیا؛ فی حین أنّ الإسلام -کما هو معلوم- عقیدة وشریعة وأخلاق، وهو -حسب وضعه الأصلیّ- مشروع إنسانیّ کونیّ للدنیا والآخرة، ولکنّ الفصام النکد حدث فی فترة من الفترات بین الواقع والمنهج، وبین التشریع والمجتمع، وغدت الشریعة شأناً أخرویّاً، حتى فی أحکامها التی تتناول شؤون الحیاة الدنیویّة.
4. الانقطاع عن الواقع الموضوعیّ المتغیّر، وعدم التفاعل مع المحیط؛ ذلک أنّ منهج الاستنباط الفقهیّ لا یرتکز على دراسة النصّ فقط؛ بل یرتکز -أیضاً- على رؤیة الواقع وتدبّره. وهذا التدبّر لیس مجرّد معرفة علمیّة ورؤیة بصریّة؛ وإنّما هو فی حقیقته وعیٌ للعلاقة بین الواقع والنصّ، ووعیٌ للعلاقة بین الواقع وصیرورة حیاة الناس. وتبعاً لهذا، یرى الشیخ شمس الدین أنّ آیات التفکّر والتدبّر فی خلق الله من المکوّنات الأساس لمنهج الاجتهاد؛ لکونها توجّه فکر الفقیه ونظره نحو الواقع والطبیعة، ونحو الاجتماع الإنسانیّ؛ حتى یبنی فهمه للشریعة فی ضوء ذلک، بما یتجلّى فی استنباطه لأحکامها.
5. عدم ملاحظة مقاصد الشریعة فی کثیر من مجالات الفقه؛ ذلک أنّ استغراق عملیّة الاستنباط الفقهیّ فی الجزئیّات، وإسرافها فی توظیف بعض الأدوات الأصولیّة العقلیّة فی استنطاق النصّ، أفضیا بها إلى فهم حرفیّ للنصّ، ونأیا بها -أحیاناً- عن روح الدلیل، فتمّت صیاغة فتاوى لا تنسجم مع روح الشریعة. یُضاف إلى هذا أنّ التعامل مع النصّ بمعزل عن حقله الخاصّ، وبمعزل عن علاقة حقله الخاصّ مع الحقول الأخرى، یؤدّی إلى عدم وعی مقاصد الشریعة[30].
خامساً: من فقه المبانی إلى فقه المقاصد:
بناءً على ما تقدَّم، فإنّ أیّ مجهود تجدیدیّ فی المجال الفقهیّ یروم إعادة ترمیم الأنموذج الموروث وإعادة توجیهه، هو مطالب بأن یبتعد -ما أمکنه الابتعاد- عمّا یسمّى بـ "فقه المبانی"، الذی من أبرز سماته الانحصار ضمن دائرة ألفاظ النصّ ودلالاته اللغویّة والمنطقیّة والأصولیّة، دون الارتباط بالواقع ومتعلّقاته، على عکس "فقه المعانی" المثبّتة رکائزُه فی الواقع، والموصول "بمقاصد النصّ وروح التشریع والحکمة العامّة التی یهدف النصّ أو التشریع العامّ إلى تحقیقها فی مثل هذا الواقع. إنّه فقه یتّصل بتشخیص الواقع ومعالجته، ویستمدّ من مقاصد التشریع ومقاصد النصّ لمعالجة الواقعة الفقهیّة. وعلیه، إذا کان فقه المبانی عملاً صناعیّاً فنّیّاً؛ فإنّ فقه المعانی عمل علمیّ یقرِّب روح التشریع إلى الواقع"[31].
ولا یعنی هذا -بأیّ حال من الأحوال- إهمال "فقه المبانی"، وإبطال فاعلیّته والعمل به؛ بل یکون هو الأساس للنصّ الجدید المشرّع، وحیاً کان أم وضعاً، لواقعة محدّدة. فهو المناسب للحالة القائمة التی ورد النصّ بشأنها أصلاً. أمّا عندما تتغیّر الظروف، وتتبدّل أوضاع الحالة المعنیّة، وتستجدّ أمور؛ فإنّه یتعسّر على فقه المبنى معالجة هذه المستجدّات والتفاعل مع هذه المتغیّرات من دون اللجوء إلى فقه المعنى، وهذا ما یفسّر التأویلات المختلفة التی ظهرت فی الفقه الإسلامیّ خلال عصور الاجتهاد المزدهرة[32].
ومع تقدیر کلّ ذی ملکة فقهیّة للرصید الهائل من التراث الفقهیّ الإسلامیّ الذی ترکه الجهد العظیم للمذاهب الفقهیّة المعتبرة؛ فإنّ ما یعرفه عالم الیوم من تطوّر اجتماعیّ وسیاسیّ واقتصادیّ وعلمیّ قلب العالم القدیم، محدثاً تغییراً شاملاً فی طبیعة العلاقات الداخلیّة والدولیّة، بما یقتضی -بلا شکّ- فقهاً جدیداً، وفکراً مغایراً، یعتمد مواجهة الواقع برؤیة فقهیّة تستحضر حکمة الشریعة وفلسفتها وروحها ومقاصدها، لا بالاستعانة بصناعة الجدل اللفظیّ أو المنطقیّ البعید عن واقع الناس الملموس؛ وإنّما بالاستنارة بالمبادئ العامّة والمعاییر الإنسانیّة والقیم الروحیّة للشریعة الإسلامیّة[33].
فی ضوء هذا کلّه، یبدو أنّ مشکلاتنا سوف تزداد حدّة على مستوى ملاءمة الفقه مع الواقع المتحوّل المتجدّد؛ إنْ لم یُبادَر إلى تغلیب فقه المقاصد والمعانی على فقه الأشکال والمبانی. ففقه المعانی یبدو هو المدخل المناسب لحلّ کثیر من مشاکل العصر، والتعاطی معها على نحو إیجابیّ. أمّا فقه المبانی -إن اعتُمِد کما هو- فسیُبقی الأمّة أسیرة العقول الماضیة التی فکّرت وأثمرت وأنتجت لأزمنتها الماضیة. وهو لن یساعد فی تحریکها للّحاق بالرکب الصاعد فی المجالات الحضاریّة المختلفة. على العکس من فقه المقاصد الذی من شأنه أن یساعد الأمّة على التعایش الودّی مع الأمم الأخرى، ویؤکّد للعالم قدرة الإسلام على الإسهام الحضاریّ الفعّال والتفاعل المثمر مع کلّ جدید وطارئ.
یبقى أن ننبّه فی هذا الإطار إلى أنّ فقه المعانی والمقاصد ینبغی أن لا یکون منهج فرد أو طریقة شخص؛ بل یقتضی وجود مجمع فقهیّ إسلامیّ عالمیّ یُعتمد فی ضبط الاجتهاد، وفقاً لمقاصد الشریعة الحقّة، لا وفق المیول المذهبیّة أو الأهواء الشخصیّة[34]؛ حتى لا یسود التسیّب فی الاجتهاد، ولا تعمّ الفوضى فی مجال الفقه والفتوى.
إنّ استمرار حال الجمود وعدم تحریک عجلة التجدید فی الفقه وفی مجامع العلم الشرعیّ؛ سیؤدّی إلى إخلال الأفکار والآراء الغریبة التی تخرج علینا کلّ یوم فی صورة بدیل واقعیّ عن الفکر الإسلامیّ الموثوق والمؤسّس تأسیساً صحیحاً."وإذ ذاک نکون أمام معضلة حقیقیّة ذات انعکاسات کبیرة؛ سواء فی الحاضر أم فی المستقبل؛ تتلخّص فی أنّ ما یُعرَض باعتباره فکراً إسلامیّاً أو منهجاً لنهضة المسلمین، لیس فی جوهره إلا جمعاً مرقّعاً فیه من الحقیقة، مثل ما فیه من الزیف، حیث یصعب على المسلم العادی الراغب فی معرفة دینه التمییز بین ما هو من الدین حقّاً وبین ما هو بعید عنه. والعلاج الصحیح لهذا المشکل لیس سوى إعادة تقویم أولویّاتنا، خاصّة فیما یتعلّق بمجالات اشتغال المجامع العلمیّة باتّجاه الانصراف عن إعادة إنتاج الماضی إلى إنتاج الجدید الذی هو موضع حاجة الجیل الجدید من المسلمین"[35].
ومن جملة ما یجب إعادة النظر فیه: مفهوم "الفقه" نفسه؛ کما هو متصوَّر فی التعریف التقلیدیّ الذی ینطوی على کثیر من أوجه القصور، لیس أقلّها جعله قیمة العلم التی قال بها الإسلام منصرفة إلى جانب محدود من العلم؛ وهو العلم بالأحکام الشرعیّة العملیّة فقط. بینما یفید إطلاق الأدلّة أنّ المقصود بالعلم فی الآیات والروایات التی دلّت على تعظیمه وتشریفه مطلق العلم؛ من حیث کونه ضروریّاً لجعل حرکة الإنسان فی حیاته منتظمة ومتصاعدة إلى الأمثل والأسلم، وهو ما یحقّق المقاصد الکبرى للشریعة الإسلامیّة. رُوی عن أمیر المؤمنین (ع) فی بعض وصایاه لکمیل بن زیاد: "یا کمیل، إنّ هذه القلوب أوعیة فخیرها أوعاها... الناس ثلاثة؛ فعالم ربّانیّ، ومتعلّم على سبیل نجاة، وهمج رعاع أتباع کلّ ناعق، یمیلون مع کلّ ریح، لم یستضیئوا بنور العلم، ولم یلجأوا إلى رکن وثیق"[36].
وغیر خافٍ أنّ التقویم التقلیدیّ للعلم قد أفضى -بشکل مباشر أو غیر مباشر- إلى انفصال العلوم الإنسانیّة والعقلیّة والتجریبیّة غیر المرتبطة ارتباطاً بیّناً بعلم الشریعة -ولاسیّما العلوم الحدیثة منها- عن سُلَّم القیم الدینیّة، فأصبح یُنظر إلیها على أنّها أجنبیّة عن الدین غریبة عنه، أو غیر ذات جدوى ودخل فی إنجاز الأمور الدینیّة، وهذا من مداخل الفصل بین الدین والحیاة؛ فالحیاة - کما هو معلوم- تتطوّر تبعاً لتطوّر العلوم وازدهارها. هذا فی الوقت الذی لا تتمتّع فیه هذه العلوم ولا أصحابها بالاعتبار الاجتماعیّ الذی تقول به الشریعة لنظرائهم من أهل العلم فی عصور الإسلام السالفة. ولا شکّ فیأنّ أغلبیّة المسلمین تجمعُ على أنّ تقدّم الأمّة مرهون باستعادة الربط الضروریّ بین الدین وعلومه من جهة، وبین حرکة العلم وتطوّراته فی مجالات الحیاة المختلفة من جهة أخرى[37].
ولیس من المبالغة فی شیء القول إنّه "لا یوجد أیّ فهم للدین لا یستند إلى معارف ومفاهیم من خارج الدین؛ بمعنى أنّه ما من نقطة فی مناحی المعرفة الدینیّة لاترتبط ولا تتلاءم مع المعارف الخارجیّة. فالمعرفة الدینیّة إذاً-أی الفهم الصحیح أو السقیم للشریعة- تستفید کلّیّاً من المعارف البشریّة غیر الدینیّة وتستمدّ منها، تقترن بها وتنسجم معها؛ سواء من حیث ظهور المراد أم خفاؤه، ومن حیث کشف صدق المعانی أم کذبها، وثباتها أمتحوّلها"[38]. وهذا یعنی -من ضمن ما یعنیه- أنّ ثمّة تفاعلاً متواصلاً وحواراً مستمرّاً بین المعرفة الدینیّة من جانب، والمعارف العلمیّة والفلسفیّة والعرفانیّة وغیرها منجانب آخر؛ فکلّ واحدة تؤثّر فی الأخرى وتتفاعل معها، إفادة أو استفادة.
من هنا، فإنّ المسألة التی غُفل عنها فی حمأة الصراع بین التقلید والتجدید هی:کیف یمکن أن یتجدّد فهم الإنسان طالما أنّ فهمه للشریعة راکد آسن؟! فلا یمکن أن یُوفّق أحد إلى هذا التجدید -ولو بنسبة قلیلة- دون أن یکون على معرفة عمیقة بالمعارف البشریّة الجدیدة. فالفقه -مثلاً- جزء صغیر من المعارف الدینیّة. وفی التفسیر یُستفاد من المبانی والأرکان والمعتقدات الکلامیّة والأصولیّة. لذا مالم یظهر تجدّد فی کلام شخص (بالمعنى العام للعلوم المتعلّقة بالله، والنبوّة، وعلم المعرفة، وعلم الإناسة)؛ فإنّ فقهه لن یتغیّر[39].
سادساً: نقد "الاجتهاد" المُقَلِّد:
انبرى ثلّة من المفکّرین والعلماء لتحمّل مسؤولیّة مواجهة التیار التقلیدیّ فی فهم الدین عامّة، وفی المجال الفقهیّ على وجه الخصوص، فأنکروا صحّة التعریف التقلیدیّ إنکاراً ونقضوه نقضاً؛ومنهم: العلامة السید محمد حسین الطباطبائی الذی یرى أنّ الروایات الکثیرة الواردة عن أهل البیت (عله) فیما یتعلّق بالفقه تدلّ على أنّ المراد بالتفقّه ما هو أعمّ بکثیر من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح علیه الیوم. ولذلک عارض -أی السید الطباطبائی- تفسیر الشیخ الطوسی لآیة النفر؛ قائلاً: إنّ المراد بالتفقّه هنا هو تفهّم جمیع المعارف الدینیّة؛ من أصول وفروع، لا خصوص الأحکام العملیّة؛ کما هو الفقه المصطلح علیه عند "المتشرّعة". والدلیل علیه قوله تعالى:{وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ} (سورة التوبة، الآیة: 122)؛ فإنّ ذلک إنّما یتمّ بالتفقّه فی جمیع الدین؛ وهو ظاهر[40].
أما الحکیمیّ، فذهب إلى "أنّ الصورة الراهنة للاجتهاد فی المجامع العلمیّة تجعله أقرب إلى التقلید منه إلى الاجتهاد بمعناه المفترض؛ لأنّ الاجتهاد یستهدف استخراج الحکم الشرعیّ للواقعة الجدیدة، لکنّ الفقیه المعاصر استبدل الجواب الجدید على المسألة الجدیدة بافتراض لها مُستَورَد من التاریخ، فهو یفصل المسألة عن زمنها، ویعید تصوّرها ضمن زمن سابق، فیجیب علیها ضمن هذا الإطار؛ بینما یفرض تحوّل الزمن اختلافاً فی طبیعة المسألة تفرضه العلاقات الجدیدة بینها وبین محیطها، الأمر الذی یجعل للحکم الشرعی أبعاداً وانعکاسات غیر تلک؛ لأنّها کانت لمسألة الزمن المنقضی. وبالتالی، فإنّ هذا لیس اجتهاداً وإنّما هو تقلید مکشوف. فالجواب على المسألة ضمن إطارها الزمنیّ الفعلیّ هو الاجتهاد الصحیح"[41].
وإلى مثل هذا الرأی یذهب السید الشیرازی عندما یؤکِّد على أنّ العودة إلى بحث ما بحثه السابقون لا یدخل ضمن دائرة معانی التفقّه التی نستنتجها من الروایات؛ حتى لو أُجریت بعض التغییرات فی الأحکام؛ لأنّ الفقه الحقّ هو الذی یتولّى استنباط الأحکام التی یحتاجها المسلم الیوم، ولذلک فإنّ نجاح أو فشل الفقه الإسلامیّ فی الحفاظ على مکانته الرفیعة مرهون بقدرته على التکیّف مع واقعیّات الزمان، أمّا بقاؤه فی حدوده الموروثة، فسیجعله-لا محالة- مجرّد تنظیر علمیّ قلیل الأهمّیّة فی حیاة المسلمین، ولن یتجاوز اعتباره أو تأثیره أبواب مدارسه[42].
من المؤکّد أنّ کلّ یوم جدید یأتی بمشاکل وقضایا جدیدة تحتاج إلى معالجة على الصعید الفقهیّ، وهذا -من دون شکّ- یحتاج إلى فقهاء أحیاء یتمتّعون بفکر حیّ متیقّظ. فمعنى الاجتهاد -کما رأى المرحوم مطهّریّ- یصحّ فی تطبیق السنن الکلّیّة على الجدید من الحوادث، والمجتهد الحقیقیّ هو الذی یدرک هذا الأمر بعمق، ویستوعب کیفیّة تغیّر الموضوعات مع تغیّر الزمان والمکان، ما یوجب تغییراً موازیاً فی أحکامها. أمّا إعمال النظر فی القدیم الذی أرهقه الآخرون بحثاً حتى یتوصّل الفقیه بعد سنین طویلة إلى استبدال عبارة"على الأحوط"بعبارة"على الأقوى"، فلیس بالفقه الذی سیحقّق ذلک التشریف والتعظیم، ولا بالاجتهاد الذی یوجب الاعتراف والتقدیر[43]؛ لأنّه لا یفعل أکثر من تطویع النصّ لعالم واقع لا یناسبه، والحال أنّ النصّ-بحکم طبیعته نصّاً شرعیّاً- هو الذی یجب أن یتکیّف مع تحوّلات الواقع وتغیّراته.
من هذه الزاویة یتّضح أنّ بناء فقه الواقع هو عنصر أساس من العناصر المهمّة لفقه الدین ککلّ، وفقه تنزیل أحکامه. "فقد یحصل فهم الدین، ولکن لا یحصل تطبیق الدین"؛ أی التدیّن. ذاک أنّه إذا کان "الدین دائراً على العلاقة بین مصدر الدین قرآناً وحدیثاً، وهو منضبط فی خصائصه ومواصفاته، وبین العقل المدرک وهو منضبط فی قانونه الإدراکیّ، فإنّ التدیّن یدور على العلاقة بین عناصر ثلاثة، تضمّ إلى جانب العنصرین السابقین عنصر واقع الحیاة الإنسانیّة، وهو عنصر شدید التعقید فی أسبابه وتفاعلاته وملابساته"[44]. وتبعاً لهذا، فإنّ "فهم الواقع الإنسانیّ یغدو عاملاً بالغ الأهمّیّة فی التدیّن، ولا یقلّ أهمّیّة عن فهم الدین نفسه، فهما الشرطان المتلازمان فی مرحلة الفهم، اللذان یعتبران الخطوة الأولى فی سبیل تحقیق الدین فی الواقع؛ أی فی سبیل تحقیق التدیّن"[45].
ولا یخفى أنّ أوّل سبیل إلى الواقع -بوصفه شبکة علاقات اجتماعیّة وإنسانیّة- هو الانخراط فیه، ومعایشة الناس، والوقوف على مشکلاتهم، والاستعانة فی تحلیل ذلک وفهمه بالعلوم الإنسانیّة المختلفة، اجتماعیّة ونفسیّة واقتصادیّة وغیرها[46].
إنّ أیّ محاولة لتجاهل التغییر الحاصل على مستوى الواقع، تنتج نظرة لاتاریخیّة، تخفی فی جوهرها رؤیة ثابثة، تجمّد الواقع، ولا تعترف بتحوّلاته. ولا بدّ من الإشارة فی هذا النطاق إلى الرسول (ص) والأئمّة الأطهار (عله) الذین لم یقتصروا على بیان الحکم الشرعیّ؛ بل کانوا یشخّصون الموضوعات انطلاقاً من الأدوار السیاسیّة والاجتماعیّة التی کانوا یلعبونها فی الحیاة العامّة.
تأسیساً على هذا،یُفترض أن یکون الفقیه المجتهد أکثر مرونةً فی تعامله مع النصوص، وأکثر انفتاحاً فی فهمه للواقع. ولعلّ الجمود الفقهیّ الحاصل الیوم فی أکثر من اتّجاه ومجال هو السبب المباشر فی ابتعاد کثیر من المسلمین عن دینهم؛بما أنّ هؤلاء ینظرون إلى الدین ویقیّمونه من خلال المتحدّثین باسمه؛لأنّ الصیغ التی یقدّمها هؤلاء تعقّد حیاة الإنسان ولا تحلّ مشاکله[47].
إنّ المأزق الذی یعیشه العقل الإسلامیّ عامّة الیوم، والعقل الفقهیّ على جهة التخصیص، "لا تنبع من الفقه نفسه؛ بل من الفلسفة الموجَّهة له، أی من أسسه وفرضیّاته المعرفیّة والأخلاقیّة، أو بعبارة أخرى: هی مشکلة ناشئة من العقلانیّة الفقهیّة. وهذه الأسس والمرتکزات لیست سوى الأصول والقواعد المنظِّمة لعملیّة البحث الفقهیّ، والتی تحدّد للفقهاء من أین ینطلقون فی البحث الفقهیّ، وکیف یرتّبونه، ومن أیّ منابع یستلهمون، وما هو دور العقل والنقل والتجربة والعرف فی عملیّة الاستنباط الفقهیّة"[48]. ومن هنا، فلا مطمع فی تجاوز محنة هذا العقل؛ إلا بإصلاح اختلالاته، وتخطّی آفاته التی فی مقدّمتها: الإفراط فی "التماهی مع النصّ والابتعاد عن الواقع"، أو بکلام آخر: الإفراط فی الحرفیّة النصّیّة، والارتهان للجمود التأویلیّ إلى حدّ یبدو فیه أنّ مشکلة النصّیّین المقلّدین فی هذا الزمان أکثر خطورة وتعقیداً من تلک التی کان یعیشها النصّیّون السابقون؛ بحکم قربهم من النصّ وتفاعلهم المباشر معه. أمّا هؤلاء، فالوضع عندهم مختلف، لذا، فهم مجرّد تابعین للنصّیّین الأوائل، مقلّدین لهم. لکنْ یبقى أنّ غیاب القراءة العقلانیّة، والتلقّی العلمیّ للنصّ، وإلغاء أیّ أبعاد اجتماعیّة أو تاریخیّة أو سیاسیّة فی فهمه کلّ ذلک یظلّ مرکز التقاطع والقاسم المشترک بینهم جمیعاً، وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأزمنة.
ولا یبعد عن هذا ما تواجهه هذه "العقلانیّة التقلیدیّة" من تجمید لحرکة العقل، ونکوص عن الاشتغال بآلیّات الممارسة النقدیّة الحقّة، بدعوى أنّ ما فی الکتاب والسنّة یغنی عن العقل الإنسانیّ، ویسدّ مسدّ النقد (من حیث هو تمظهر للقراءة المنتجة المؤسّسة على آلیّات علمیّة للتحلیل ومناهج دقیقة لاستنطاق النصوص وإنتاج المعرفة)؛ بل -کما هو راسخ فی حیّز اعتقاد البعض خطأً- إنّ ما أنتجه السلف-فهماً وشرحاً وتأویلاً للنصّین المذکورین هو من الغنى والإحاطة والإطلاقیّة- بما ینزّله منزلة الحقّ الذی لا یمکن أن یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه. ومن ثمّة لیس فی الإمکان أبدع ممّا کان! الأمر الذی أنتج على مستوى الواقع کائنات بشریّة عماد التفکیر عندها الحرفیّة النصّیّة من جهة، والرجوع إلى بدایات تشکّل الفکر الدینیّ-نسخاً وتقلیداً- من جهة أخرى[49].
إنّ خطورة الاستناد إلى هذا المنظور فی التعاطی مع الموروث الدینیّ جملة، تکمن فی تمثّلها للنصوص الدینیّة (قرآناً وحدیثاً)، وکأنّها استنفدت طاقاته الدلالیّة وإمکاناتها التأویلیّة مع الجیل الذی عایشها لحظة نزولها أو بعدها بقلیل؛ لذلک یتصوّرون أن لا حقیقة إلا ما أقرّوه، وأن لا باطل إلا ما بیّنوه، وأن لا جواب بعدهم إلا بما أجابوا به، حتى وإنْ کانت أجوبتهم "القدیمة" سابقة على أسئلتنا ومشکلاتنا "الحدیثة". والواقع أنّ "لکلّ زمان أسئلته التی تخصّه، کما إنّ واجب کلّ أمّة -کائنة ما کانت- أن تجیب عن هذه الأسئلة. وما قد یغیب عن أذهان البعض هو أنّ الأمّة لا تکون أمّة بحقّ حتى ترقى بالجواب عن أسئلة زمانها إلى رتبة الاستقلال به؛ إذ لیس لها إلى امتلاک ناصیة هذا الزمان من سبیل إلا هذا الجواب المستقلّ، وإلا صار ملکه إلى أمّة سواها، فتُضطر إلى أن تجیب بما تجیب به هذه"[50].
ولا یعنی "الجواب" -ها هنا- إلا التجاوب العاقل المنتج والتفاعل الإیجابیّ المثمر مع مُفَصّل ما یشهده واقع الناس ومُجمَله من تقلّبات، وما تعرفه حیاتهم وعصرهم من تحوّلات، على کافّة الصعد والمستویات، وفی مختلف المناحی والاتّجاهات، على نحو یعکس بصمات هویّة هذه الأمّة، وخصائص عصرها، ورؤیتها للعالم التی تجعلها تبدو متمیّزةً عن غیرها، مختلفةً عمّا سواها فی قراءة الوقائع والأحداث وفهمها،کما فی التعاطی مع العلامات والنصوص وتأویلها.
خاتمة:
إنّ الاجتهاد -من حیث کونه عاملاً من عوامل التجدید والتطوّر، سواء أفی مجال الدین والقضایا الموصولة به، أم فیما سوى ذلک- هو حاجة دائمة، وسیرورة ثقافیّة واجتماعیّة تقتضیها طبیعة الحیاة وتقلّباتها، وتُوجبها حرکة الإنسان وسعیُه، ومن ثمّ فهو (أی الاجتهاد) ضرورة شرعیّة دینیّة، مثلما هو ضرورة إنسانیّة واقعیّة؛ فبه تحصل المسایرة والمواکبة لروح العصر وتغیّراته وتطوّراته، وبفضله تتأتّى مجابهة المشکلات الطارئة والقضایا الحیاتیّة المستجدّة. ولهذا، فبدونه تُصاب الحیاة بالجمود والتحجّر، وتَعرف الثقافات طریقها نحو الانکماش والتراجع.
ولا یعنی الاجتهاد فی نظرنا -کما سبق البیان- إلا التعاطی مع الحاجات الفکریّة للعصر الحالیّ بقدر من "الوعایة والدرایة"، على نحو یُمَکّن من صیاغة أجوبة حدیثة للقضایا المتجدّدة، والإتیان بردود جدیدة على المعضلات الحدیثة، لیس بالضرورة أن تکون غیر مسبوق إلیها بشکل مطلق؛ وإنّما على الأقلّ یتحقّق فیها نوع من الإبداع القائم على أساس من "الانفصال المتّصل" بالماضی والتراث، أو "الاتّصال المنفصل" عنهما.
وهذا یعنی أنّه کما لم یکن ممکناً مواجهة أسئلة الأزمنة الماضیة بإجابات الیوم، ولا مقاربتها بمنطق الراهن؛ فکذلک من غیر المقبول -منطقاً وواقعاً- مواجهة إشکالات الیوم بأجوبة الزمن الغابر، أو قیاسها بمیزان العقل القدیم، وإلا سیکون ذلک وجهاً من أوجه "الجحود" بمبدإ التغیّر والتطوّر، وشکلاً من أشکال مقاومة -بل رفض- التجدّد والتقدّم؛ بما هما سمتان ممیّزتان للإنسان فی کلّ عصر ومکان، وصفتان مقترنتان بالعقل فی کلّ حال وزمان.
ولهذا، فممّا یتوجّب على العقل المسلم-تحدیداً- لکسب التحدّیات التی یفرضها الزمن المعاصر أن یسعى إلى ملاءمة فهم الدین مع المتغیّرات التی تطرأ على العالم الخارجیّ، مُراعیاً مقتضیات المناهج الفکریّة الحدیثة، ومستجیباً لشروط المعاییر العلمیّة المستجدّة التی من شأنها أن تساهم فی إحیاء إنتاجیّته، وتمدّه بأسباب القوّة والمناعة؛ عَلّه یخرج من نفق الاتّباع والتقلید، إلى أفق الاجتهاد والتجدید.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] عشاق، عبد الحمید: "شأن الاجتهاد وحاجة الأمّة إلیه فی هذا العصر"، ضمن کتاب "الاجتهاد والتجدید فی الفکر الإسلامیّ المعاصر"، المغرب، منشورات الرابطة المحمدیة للعلماء؛ مطبعة المعارف الجدیدة، 2013م، ص49.
[4] ابن عاشور، أحمد الطاهر: مقاصد الشریعة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزیع، لا ت، ص63.
[5] القرضاوی، یوسف: الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، ط4، الکویت، دار القلم، ص6.
[7] عشاق، "شأن الاجتهاد وحاجة الأمّة إلیه فی هذا العصر"، م.س، ص50-51.
[8] الشافعی، محمد بن إدریس: الرسالة، تحقیق: أحمد شاکر، ط1، مصر، مکتبة الحلبی، 1358هـ.ق/ 1940م، ج1، ص19.
[9] القرضاوی: الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، م.س، ص6.
[10] الریسونی، أحمد: الاجتهاد (النصّ، الواقع، المصلحة)، ط2، الشبکة العربیة للأبحاث والنشر، ص9.
[11] عطیة، یونس: الاجتهاد والتجدید فی الفکر المقاصدی، بیروت، دار الطلیعة، 2014م، ص17.
[12] القرافی، شهاب الدین: الإحکام فی تمییز الفتاوی عن الأحکام، تحقیق: عبد الفتاح أبو غدة، ط2، بیروت، دار البشائر، 1995م،ج1، مبحث1، ص218.
[13] ابن القیّم الجوزیّة: أعلام الموقعین عن ربّ العالمین، تحقیق وتعلیق: محیی الدین عبد الحمید، ط2، بیروت، دار الفکر، 1977م، ج3، مج2،ص98.
[14] الرازی، فخر الدین: المحصول فی علم أصول الفقه، تحقیق: طه جابر العلوانی، ط1، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1418هـ.ق/ 1997م، ج6، ص6.
[15] الأندلسی، ابن حزم: الإحکام فی أصول الأحکام، تحقیق:أحمد شاکر؛ إحسان عباس، بیروت، دار الآفاق الجدیدة، ج8، ص133.
[16] هکذا عرّفه الشیخ عبد الله درّاز فی تحقیقه الموافقات. الشاطبی، إبراهیم: الموافقات فی أصول الشریعة، تحقیق: عبدالله درّاز؛ محمد عبدالله درّاز، القاهرة، دار الفکر العربی؛ المکتبة التجاریّة، 1341هـ.ق، ج4، ص89.
[17] انظر: الزبیدی، محمد: تاج العروس، تحقیق: علی شیری، لا ط، بیروت، دار الفکر، 1414هـ.ق/ 1994م، ج4، ص379.
[18] القرضاوی، یوسف: الفقه الإسلامیّ بین الأصالة والتجدید، ط2، القاهرة، مکتبة وهبة؛ مطبعة المدنی، 1419هـ.ق/ 1999م، ص29.
[19] عطیّة، الاجتهاد والتجدید فی الفقه المقاصدیّ، م.س، ص21.
[21] عشاق، "شأن الاجتهاد وحاجة الأمّة إلیه فی هذا العصر"، م.س، ص56.
[22] شبار، سعید: "فقه الواقع؛ سیاق خارجیّ ومقامیّ للنصّ"، ضمن کتاب "أهمّیّة اعتبار السیاق فی المجالات التشریعیّة وصلته بسلامة العمل بالأحکام"، الرباط - المغرب، منشورات الرابطة المحمّدیّة للعلماء، 2007م، ص679.
[24] النجّار، عبد المجید: مباحث فی منهجیّة الفکر الإسلامیّ، ط1، دار الغرب الإسلامیّ، 1992م، ص148.
[25] شبار، "فقه الواقع؛ سیاق خارجیّ ومقامیّ للنصّ"، م.س، ص683.
[27] الدرینی، محمد فتحی: المناهج الأصولیّة فی الاجتهاد بالرأی فی التشریع الإسلامیّ، ط3، الشرکة المتّحدة للتوزیع، 1984م، ص5.
[28] القرضاوی، یوسف: من أجل صحوة راشدة تجدّد الدین وتنهض بالدنیا، الدار البیضاء - المغرب، دار المعرفة، ص45.
[29] القرضاوی، یوسف: الفتوى بین الانضباط والتسیّب، القاهرة، دار الصحوة للتوزیع والنشر، 1988م، ص40.
[30] انظر: المیلاد، زکی: تجدید أصول الفقه، دراسة تحلیلیّة نقدیّة لمحاولات المعاصرین، الدار البیضاء، المرکز الثقافی العربی، 2013م، ص143-145؛ شمس الدین، محمد مهدی: الاجتهاد والتجدید فی الفقه الإسلامیّ، بیروت، المؤسّسة الدولیّة للدراسات والنشر، 1999م.
[31] أحمد، محمد شریف: تجدید الموقف الإسلامیّ فی الفقه والفکر والسیاسة، دار الفکر، 2004م، ص43.
[33] أحمد، تجدید الموقف الإسلامیّ فی الفقه والفکر والسیاسة، م.س، ص46.
[35] السیف، توفیق: "نحو تعریف جدید للفقه ووظائفه"، مجلة الکلمة، العدد5، السنة الأولى، خریف1994م، ص52-53.
[36] العلوی، الحسین (الشریف الرضی): نهج البلاغة (الجامع لخطب الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) ورسائله وحکمه)، شرح: عباس علی الموسوی، ط3، بیروت، دار الهادی، 2009م، ص35.
[37] السیف، "نحو تعریف جدید للفقه ووظائفه"، م.س، ص53.
[38] سروش، عبد الکریم: القبض والبسط فی الشریعة، ط2، دار الجدید، 2010م، ص27-28.
[40] السیف، "نحو تعریف جدید للفقه ووظائفه"، م.س، ص54.
[41] الحکیمی، محمد رضا: "الآفاق الفکریّة خارج الحوزة"، مجلة حوزة، العدد2، ربیع الأوّل1404هـ.ق، ص34.
[42] السیف، "نحو تعریف جدید للفقه ووظائفه"، م.س، ص55.
[43] مطهری، مرتضى: الاجتهاد فی الإسلام، ص26.
[44] النجّار، عبد المجید:"فی فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً"، ضمن کتاب الأمّة، العدد23، 1410هـ.ق، ص 121 وما بعدها.
[46] شبار، "فقه الواقع؛ سیاق خارجیّ ومقامیّ للنصّ"، م.س، ص691.
[47]شعیب، قاسم: تحریر العقل الإسلامیّ، المرکز الثقافی العربی، 2007م، ص148-149.
[48] فنائی، أبو القاسم: "العقلانیّة الفقهیّة والعقلانیّة العرفیّة"، مجلة قضایا إسلامیّة معاصرة، العدد51-52، 2012م، ص344.
[49] الدراوی، العیاشی: سؤال التجدید بین الفلسفة واللغة، الدار البیضاء- المغرب، أفریقیا الشرق، 2013م، ص16-17.
[50] عبد الرحمن، طه: الحقّ العربیّ فی الاختلاف الفکریّ، الدار البیضاء؛ بیروت، المرکز الثقافی العربی، 2005م، ص15. ویُستحسن فی هذا الإطار الرجوع إلى: الدراوی، العیاشی: فی التواصل التکاملی؛ فصول من التناظر بین الفکر العربیّ والفکر الغربیّ، بیروت، منشورات ضفاف، 2014م، مقدّمة الکتاب تحدیداً.