محدّدات منهجیّة فی الفکر الاجتهادیّ - دراسة فی ضوابط التأصیل والتنزیل -
الدکتور محمد علا[1]
خلاصة:
یجد المتأمّل فی نصوص الوحی والتجربة النبویّة الأولى محدّدات منهجیّة تحکم الفکر الاجتهادیّ على مستوى التأصیل النظریّ، وعلى مستوى التنزیل العملیّ؛ أبرزها ثلاثة محدّدات أساسیّة: محدّد الفصل بین الشرع والتاریخ (إشکالیّة إسقاط الواقع المعاصر على واقع السابقین، والنظر بمنظار العصر إلى عصرهم)، ومحدّد التمییز بین الأصول (التی تشکّل الثوابت والأرکان والمسائل الکبرى للدین) والفروع (التی تشکّل المتغیّرات والمسائل الفقهیّة الجزئیّة فی الدین)، ومحدّد وحدة النصّ وتعدّد الفهم (وما ینتج عنه من ثراء فکریّ، وتنوّع ثقافیّ، هو من سنن الحیاة).
إنّ مجموع المحدّدات المتقدّمة تشکّل فیما بینها وحدة موضوعیّة متکاملة؛ فمحدّد الفصل بین الشرع والتاریخ یمکّننا من رؤیة متجدّدة للشرع عبر التاریخ، ومحدّد التمییز بین الأصول والفروع یبرز خصائص المرونة والعالمیّة والشمول التی تمیّز الشرع الربّانیّ عن غیره من النّظم الوضعیّة، أمّا محدّد وحدة النصّ وتعدّد الفهم، فیعطی مجالاً رحباً لتفاعل العقل مع النصّ فی ضوء الواقع المتغیّر المتجدّد، کما یبرز تفاوت الأفهام وتلاقح الأفکار للوصول إلى أرقى الحلول وأقوم المسالک.
مصطلحات مفتاحیّة:
الاجتهاد، التأصیل، التنزیل، الفقه، التجدید، التقلید، الشرع، التاریخ، الواقع، الأصول، الفروع، وحدة النصّ، تعدّد الفهم.
مقدّمة:
ثمّة مفاهیم أصیلة فی ثقافتنا الإسلامیة لها قدرة کبیرة على الاختراق الزمانیّ والمکانیّ والموضوعیّ؛ وهی مفاهیم أساسیّة ینبغی أن تشکِّل همّاً محوریّاً یستدعی تجدیداً فی النظر، ویتطلّب مواکبة مستمرّة لحرکة الواقع المتسارعة والمعقّدة، ولدینامیّة العلوم المتطوّرة.
ومن أهمّ هذه المفاهیم: الاجتهاد، الفقه، التجدید، النظر، والتنزیل... فعبرها تتجلّى مظاهر إعمال العقل وفقه النصّ وفقه الواقع، وفی ضوء ذلک یتمّ إخراج النتاج الحضاریّ البشریّ الاستخلافیّ -الروحیّ والمادّیّ- وهو نتاج مرتبط بواقعه، وقابل للتسدید والتصویب والرقی لما هو أفضل وأحسن.
یجد المتأمّل فی معظم التجارب الحضاریّة الإسلامیّة أنّ الإمکانات الممیّزة لمرجعیّتنا المتعالیة لم یتمّ تفعیلها بالقوّة نفسها التی وردت بها فی الوحی، وحتّى الفترات القلیلة التی عرفت هذا التفعیل لم تستمرّ بالوهج والعطاء نفسه؛ إذ سرعان ما حلّ محلّ الاجتهاد والتجدید والإبداع، آفات التقلید والحشو والابتداع، وقد کانت هذه الآفات سبباً فی تضخّم الاهتمام باجتهادات تاریخیّة على حساب النصّ المؤسّس لها، فنالت من القداسة؛ مثلما نال النصّ نفسه أو أکثر.
وقد دلّت نصوص الوحی والتجربة النبویّة الأولى على وجود محدّدات منهجیّة تحکم الفکر الاجتهادیّ على مستوى التأصیل النظریّ، وعلى مستوى التنزیل العملیّ، وسنحاول أن نبرز بعضاً من هذه المحدّدات المنهجیّة، التی یشکّل الوعی بها مقدّمة ضروریّة لبناء عقلیّة اجتهادیّة تجدیدیّة متفاعلة مع واقعها؛ وفق ضوابط مرجعیّتها. وسأرکّز على ثلاثة محدّدات أساسیّة: محدّد الفصل بین الشرع والتاریخ، محدّد التمییز بین الأصول والفروع، ومحدّد وحدة النصّ وتعدّد الفهم.
أولاً: الفصل بین الشرع والتاریخ:
إنّ الحدیث عن السیرورة التاریخیّة للفکر والثقافة فی التجربة الإسلامیّة هو -فی العمق- حدیث عن تفاعل عناصر ثلاثة بدرجات متفاوتة: الوحی والواقع والعقل. أما الوحی الإلهی، فیتمثّل بالقرآن الکریم والسنّة النبویّة الصحیحة؛ بوصفهما الأصول المؤسّسة للتشریع والموجّهة للاستخلاف والعمران. وأمّا الواقع المتغیّر فهو "الذی تتفاوت فی إدراکه وتشخیصه وتکییفه عقول الناس وتقدیراتهم، بمن فیهم الفقهاء. وتبعاً لذلک یتحدّد الکثیر من اجتهاداتهم وفتاویهم المرتبطة بالواقع والمتأثّرة به"[2]. وأما العقل فهو الذی یتفاعل مع الوحی ویعایش الواقع، فتتأسّس لدیه منهجیّة التأویل والتنزیل، وقد غلب على هذا العقل فی التجربة الإسلامیّة الأولى العقل الفقهیّ -خاصّة بعد عصر التابعین- بحکم تفاعله لأوّل مرّة مع قضایا وجزئیّات فقهیّة کثیرة. وقد "تفاوت الفقهاء فی ذواتهم وقدراتهم الفکریّة ومراتبهم العلمیّة ومسالکهم المنهجیّة. ولکلّ واحد من هذه الأمور تأثیره فی اجتهاداتهم ونتائجهم؛ بل حتى أخلاقهم وطباعهم قد یکون لها تأثیر فی ذلک"[3].
ویقتضی هذا المحدّد ضرورة التمییز بین الوحی والتنزیل التاریخیّ له فی واقع معیّن، على أساس أنّ الوحی نصّ مطلق متعالی عن الزمان والمکان عبر التجارب والسیاقات المختلفة. وقد تضمّن الوحی إشارات إلى تجارب تاریخیّة انقضت بفناء أصحابها، لأخذ العبر والعظات منها، ولبناء تجارب جدیدة راقیة ومتجاوزة لأخطاء السابقین وهفواتهم وزلاتهم، ومستنیرة بإنجازاتهم وعطاءاتهم. کما "إنّ معرفة الواقع والإحاطة به من المسائل الأساسیّة فی نجاح عمل الفقیه؛ لأنّ الانزواء عن المجتمع والواقع وممارسة العمل الفقهیّ فی الزوایا؛ بعیداً عن هموم الناس، لا یمکن أن یکون إلا تکراراً لآراء القدامى الذین کانوا یتعاملون مع واقعهم. وصحیح أنّ الفقیه الیوم أصبح یحتاج إلى استشارة الخبراء وأصحاب الاختصاص فی مختلف المسائل التی تُعرَض علیه؛ نظراً إلى تعقّد الواقع، وکثرة المستجدات"[4].
ومن الأخطاء المنهجیّة: إسقاط الواقع المعاصر على واقع السابقین، والنظر بمنظار العصر إلى عصرهم، فالتراکم المعرفیّ قد وفّر لنا أدوات وآلیّات ومفاهیم ومناهج ونظریّات نستطیع من خلالها الوقوف على بعض ثغرات السابقین وهفواتهم المعرفیّة والمنهجیّة، لیس قصوراً وتهاوناً منهم؛ بل لأنّ أدوات معرفتهم حینذاک لم تسعفهم من التنبّه لها وإصلاحها. ومن ثمّ یمکن القول إنهم عاشوا عصرهم بظروفه وإشکالیّاته، ونحن نعیش عصرنا بظروفنا وإشکالیّاتنا، ومن سیأتی بعد فترة من الزمن -طالت أم قصرت- سیعیش ظروفه وإشکالیّاته، وبالتالی فالمعاصرة هی قدرة کلّ جیل فی أیّ عصر على مواجهة إشکالاته وتحدّیاته؛ اعتماداً على إمکاناته وتراکم خبراته.
ومن هنا، تقتضی الموضوعیّة والإنصاف الإقرار بأنّ وضوح الرؤیة الکلّیّة المستوعبة لظاهرة ما لا یحصل إلا بعد تقویم التجارب السابقة، والوقوف على نقاط الإصابة والسقوط، والقوّة والضعف. وبالتالی، فالممارسات السابقة تشکّل لنا -فی مجملها- تجارب اختبار لنقیس درجة قربها أو بعدها من المستوى الاجتهادیّ المطلوب، على ضوء ما وصلت إلیه المعرفة ونظمها ونظریّاتها، حسب الزمن الحالی؛ لأنّنا لا نضمن بالوسائل العلمیّة نوع تصرّفنا فی الظروف والأحوال نفسها التی مرّ بها مَنْ سبقونا، وبالتالی لا مبرّر لأنْ تستمرّ جملة من إشکالات سابقة على الرغم من توافرنا على رؤى معرفیّة ومنهجیّة واضحة لحلّها وتجاوزها. یقول أبو القاسم حاج حمد موضّحاً هذه الإشکالیّة: "ولکنّ الخلاف بیننا وبینهم یکمن فی أنّنا نوظّف مناهج ورؤى مختلفة عن مناهجهم، ضمن خصائص تکوینیّة مفارقة لخصائصهم التکوینیّة، ولا نقول إنّهم عجزوا فی ما نجحنا فیه من بعدهم؛ وإنّما نقول إنّهم أبدعوا ضمن خصائصهم الفکریّة، فهم قد أنتجوا ضمن خصائص العقل المحض، أمّا نحن فننتج بقوّة العقل مع محدّدات العلم النظریّة والمعرفیّة، ولهذا یجب النظر إلى ما خلّفوا من إرث ثقافیّ من خلال تلک الخصائص الفکریّة والمنهجیّة التی تشکَّل ضمنها وعینا بالسیرورة التاریخیّة وبالمتغیّرات الاجتماعیّة، بدل التقلیل من شأن ذلک الموروث الثقافیّ"[5].
فکلّ التجارب التاریخیّة الإسلامیّة هی نوع من التفاعل الإیجابیّ مع الوحی، ولا یمکن لتجربة أن تتحوّل إلى أصل یحاکم إلیها الأصل الأوّل. فالمرجعیّة الحاکمة تبقى للمطلق المهیمن ولیس للنسبیّ المتغیّر؛ إذ لا بدّ من أصل یحتکم إلیه عند اختلاف التجارب أو تنازعها، وهذا المطلق هو الوحی (المرجعیّة المتعالیة) الذی یقع خارج حیّز التجربة الإنسانیّة والنسبیّة البشریّة. ولقد فطن لهذا بعض علمائنا حین قرّروا فی بعض مؤلّفاتهم فصولاً تؤصّل لنسبیّة التجارب الإنسانیّة، من قبیل: "فصل فی تغیّر الفتوى واختلافها بحسب تغیّر الأزمنة والأمکنة والأحوال والنیّات والعوائد"[6]. و"فی موضوع الفقه بصفة عامّة، وفی الفقه السیاسیّ بصفة خاصّة، لا بدّ من أن ننتبّه إلى أنّ ثمّة قضایا وأفکاراً ومصطلحات تناولها الفقهاء وکُتّاب السیاسة الشرعیّة والأحکام السلطانیّة، وأصبحت مادّة متداولة ومتوارثة فی تصانیفهم، وهی فی الحقیقة لیست أکثر من توصیف وتنظیم فکریّ ظرفیّ، للنظم والأعراف التی صاغتها وصنعتها الممارسة الفعلیّة لحرکة التاریخ. ففی هذا الصنف من القضایا والأفکار یمتزج التاریخ بالشرع، أو بالأحرى یمتزج تاریخ المسلمین وتصرّفات المسلمین، بالمرجعیّة الإسلامیّة والثقافة الإسلامیّة. وقد یکون نصیب التاریخ وتأثیره فیها أکثر من نصیب الشرع وأدلّته"[7]. وإذا کان التحدّی یظهر جلیّاً حین الجمع والمزج بین استلهام الواقع بإشکالاته وقضایاه وما یتطلّبه من إصلاح وتکمیل؛ اعتماداً على المبادئ والأدلّة الشرعیّة وإرشاداتها فی زمن محدّد، یتبیّن لنا مدى التعقّد فی العلاقة التی تجمع التاریخ والشرع؛ اتّصالاً وانفصالاً، وقد ناقش هذه الجدلیّة الدکتور الریسونیّ فی مبحث سمّاه: «فصل المقال فیما بین الشرع والتاریخ من الاتّصال والانفصال»، أشار فیه إلى أنّ هذا الفصل "فصل ضروریّ حتّى لا نخلط شرعنا بتاریخنا، ولا نتّخذ التاریخ دیناً لنا... فالفصل بین الشریعة ومکوّناتها من جهة، والتاریخ ومکوّناته من جهة أخرى، یریحنا ویرفع عنّا الحرج فی مبدإ المراجعة والغربلة لتراثنا فی الفقه السیاسیّ وغیره. ویریحنا ویرفع عنّا الحرج حین نأتی إلى عدید من المقولات والمقرّرات فی هذا الفقه، فننزع عنها صفة الحجّیّة واللزوم، أو صفة القداسة، کما یقال"[8].
والخلاصة: أنّ جملة من الاجتهادات الفقهیّة أو الأصولیّة؛ "إنّما هی معطیات معرفیّة منجزة فی سیاقات تاریخیّة وثقافیّة واجتماعیّة خاصّة، ولا یمکن تجریدها من بصمات العصر المنبثقة فیه، مثلما لا یصحّ فصلها عن المشروطیّة الزمانیّة والمکانیّة والثقافیّة لمن أنتجها، فهی منخرطة فی تاریخ أصحابها، ولیست حقائق أو جواهر مثالیّة متسامیة على الواقع، کما إنّها لیست عابرة للمحدّدات، والظروف، والمحیط الذی تبلورت فی داخله. إنّها مرتهنة بالفضاء الخاصّ وخلفیّات الفقیه والأصولیّ الذی قالها أو دوّنها"[9]، فهذه المعرفة الفقهیّة "انبنت على أعراف وظروف وتقدیرات مصلحیّة کانت وجیهة وسدیدة فی حینها، ولکنّ تلک الأسس والاعتبارات تغیّرت تغیّرات تامّة، أو تغیّرات جوهریّة. ولا بأس فی هذه الحالات فی أن نتجاوز ما ذهب إلیه جمهور الفقهاء والمجتهدون المتقدّمون، وحتّى الإجماعات التی بُنیت على ما ذُکِرَ؛ فإنّها تتغیّر بتغیّر أسبابها وموجباتها الظرفیّة. أمّا أن یعمد أحدنا الیوم إلى ظنٍّ ظنّه ورأی اختاره وأعجبه، یتعلّق بفهم المعانی الأصلیّة الثابتة للنصوص، بما یتوقّف قبل کلّ شیء على الدلالات اللغویّة لعصر التنزیل، ویحتاج إلى احترام قواعد اللغة؛ کما فهمها وبیّنها المتقدّمون، ویتوقّف على اعتبار ما فهمه آلاف من الصحابة والتابعین والأئمّة والعلماء عبر عدّة عصور، ثمّ یتحدّى به الإجماع والجمهور، والسابقین واللاحقین، فهذا لیس من العقل ولا من العلم فی شیء"[10]، وتبقى هذه الموازنة أمراً مهمّاً، فهی من ناحیة لا تناهض حرّیّة البحث وحرّیّة الفکر والنقد، ولکنْ فی نطاق من المعقولیّة واحترام الاعتبارات المؤسّسة علمیّاً لا عاطفیّاً.
والأولویّة التی تفرض نفسها فی محدّد الفصل بین الشرع والتاریخ تکمن فی مراجعة مدونتنا الفقهیّة مع مراعاة مقتضیات واقع أصبح أکثر تعقیداً أن تهیمن علیه فتاوى فردیّة کانت مرتبطة بنمط عیش بسیط؛ أی أن تکون إعادة صیاغة "المدوّنة الفقهیّة" مرتکزةً على تجدید الصلة بجمیع أنواع العلوم العقلیّة والشرعیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة والطبّیّة.. وخلق جسور التواصل بین مختلف العلوم من خلال نظمها فی إطار کلّیّ شامل، و"توظیف المکاسب الراهنة للعلوم فی دراسة، وتحلیل، ومساءلة التجلّیات والتعبیرات والظواهر الدینیّة فی حیاة الفرد والمجتمع، واکتشاف منابعها وحدودها وآثارها ومعطیاتها"[11]. والمقصود هنا التنبیه إلى مداخل استئناف التجدید الممکنة، المتعالیة عن تأثیر التاریخ وتحکّمه فی عدد من الأبنیة الشرعیّة المتجاوزة له. ویؤکّد ذلک القرآن نفسه الذی یدعو إلى إدامة التفکیر والتدبّر والنظر والتعقّل والاعتبار.
ثانیاً: التمییز بین الأصول والفروع:
تشکّل الأصول الثوابت والأرکان والمسائل الکبرى للدین، وتشکّل الفروع المتغیّرات والمسائل الفقهیّة الجزئیّة فی الدین. وقد تفرَّد الوحی بمیّزات خاصّة جلیلة لم تتوافر لغیره من الکتب المنزلة، وأهمّ هذه المیّزات: إلهیّة مصدره، وأنّه آخر وحی ینزل من السماء، محفوظ من التبدیل والتغییر، وبه اکتملت الرسالات السماویّة، وهو خطاب موجّه إلى الناس جمیعاً، "رسم للناس عامّة قواعد الفکر والنظر، إلى جانب قواعد الحیاة العملیّة، وقد اشتمل هذا القرآن على تصوّر نهائیّ للکون (میتافیزیقیّ)، کما قد وضع قواعد السلوک الإنسانیّ (الأخلاق)، وهو لم یترک جانباً من جوانب الفکر والعمل (أو الدین والشریعة) إلا وملأه بوضع صورة کاملة... کما إنّ من المیّزات أنّ المسلمین قد تلمّسوا مادّة فکرهم وعملهم من مصدرین، هما: القرآن والسنّة، اللذان سارا متعاونین یرسمان للمسلم الحیاة الجدیدة، ویرسّخانها فی جمیع قواعدها"[12]، فهُما المصدران الأساسیّان للتشریع الإسلامیّ؛ "مصدر واحد مُنشئ وکاشف عن العقیدة والشریعة. ومصدر واحد تأویلیّ وتفعیلیّ وتطبیقیّ تنفیذیّ مبیّن لکیفیّة اتّباع الکتاب وتطبیقه، وهذه میزة من أهمّ مزایا هذه الرسالة الخاتمة؛ وهی التی أعطتها المرونة والاتّساع، والقدرة على الاستجابة لکلّ مستجدّات الأزمنة والأمکنة والأنساق الحضاریّة والثقافیّة وحاجات الأمم؛ لأنّها تعتمد على قواعد کلّیّة، ومقاصد علیا، ولم تشتغل بالتفاصیل الجزئیّة الدقیقة؛ إلا تلک التی هی مظنّة الحیف البشریّ، فاحتاجت إلى النصّ علیها، کالمناکح والمواریث.. والکتاب الکریم وبیانه النبویّ فی السنّة متکاملان متلازمان؛ فهما المصدر الوحید لما یمکن تسمیته بـ "الحقیقة الفقهیّة"، ولذلک کان الحلال بیّناً والحرام بیّناً، وکانت مساحة المشتبهات محدودة جدّاً"[13].
ومن تجلّیات التفریق بین الأصول والفروع ضرورة الرجوع المباشر إلى النبع الصافی (الوحی= قرآن وسنّة)، وتطهیره ممّا علق به من رواسب وشوائب وعوالق، "وتجاوز کلّ أشکال الموروث الثقافیّ وصوره التی حجبت الرؤیة، والاستمداد المباشر من تلک المصادر؛ إلا عبر وسائط وقنوات"[14]، وبناء منهجیّة معرفیّة تجعل من تلک الوسائط مصادر استئناسیّة للوصول إلى حقائق أکبر وأشمل، ولیست مصادر نهائیّة مقصودة لذاتها، باعتبارها جهداً بشریّاً وتجارب دینیّة مرتبطة بالزمان والمکان، لها عِبَرها وعظاتها ومیّزاتها ونقاط قوّتها وضعفها، ومن ثمّ "لا بدّ من نظر اجتهادیّ مستأنف لفهم الدین فهماً یراد به معالجة الواقع، وهو نظر یلتزم ضرورة فحص التراث، واستیعاب ما ورد من أفهام ثریّة، ولکنّه التزام استفادة واسترشاد واهتداء، ولیس التزام اتّباع وتقلید لأفهام السابقین على سبیل الحتم المفروض، فإنّ ذلک لا یبرّره شرع، ولا ینصلح به واقع"[15] مع الإشارة إلى أنّ الإیمان بأنّ التجدید عملیّة بناء وترمیم، ولیست هدماً وتقویضاً، ومن ثمّ فمن الأهمّیّة بمکان "الاسترشاد بالجیل الأوّل؛ من أجل الفهم السلیم للدین، ومن أجل التخلّص من الشوائب وأشکال الغلوّ التی لحقت به أو طرأت علیه"[16]. ولا ینفی هذا ضرورة مراجعة الموروث؛ تصحیحاً وتصویباً بمنهجیّة قائمة على الإبقاء الصالح النافع، وتجاوز الضارّ الثقیل. فلا بدّ من تصفیة رکام الشوائب والشبهات العالقة.
وأکثر ما یزید فی شرعیّة هذه المراجعة وضرورتها کون "فقهنا وتراثنا بمعظم مفرداته وقضایاه ومؤلّفاته، یرجع إلى ما بین القرنین الخامس والثامن الهجریّین، وأنّنا الآن فی القرن الخامس عشر؛ ما یدعو إلى أن تکون المراجعات المطلوبة عمیقة وشاملة، ولا تستثنی إلا ما کان شرعاً منصوصاً، صحیحاً صریحاً. وإذا استحضرنا أنّ ما یفصلنا عن ذلک الفقه لیس مجرّد مدّة زمنیّة طویلة تُعدّ بمئات السنین؛ بل تفصلنا عنه -أیضاً- التطوّرات النوعیّة الهائلة التی عرفتها مجتمعاتنا والعالم من حولنا، فی کافّة المجالات والأصعدة: السیاسیّة، والتشریعیّة، والاجتماعیّة، والمالیّة، والاقتصادیّة، والإداریّة، والعلمیّة، والثقافیّة، والصناعیّة، والتواصلیّة... أفلیس هذا وحده موجباً للمراجعة والتجدید والملاءمة، على نطاق واسع؟"[17].
ومن تجلّیات التفریق بین الأصول والفروع أن تکون محاکاتنا للسابقین محاکاة منهجیّة عقلانیّة، ولیست محاکاة معلوماتیّة تقلیدیّة إسقاطیّة؛ بمعنى أن ننظر فی طریقة تعاملهم مع الوحی، ومنهج تنزیله على الواقع، والاعتزاز الکبیر بهذا الدین وقیمه، والتحرّر من الخرافة والخوف والذلّ. ثمّ نتساءل: کیف کان إقدامهم وشجاعتهم، وأحیاناً مغامراتهم ومخاطراتهم فی عصور القوّة؟ وکیف کانت هفواتهم ونقاط ضعفهم فی عصور التقلید والجمود؟ فالوقوف على المنهج الذی جعلهم یؤسّسوا حضارة وعلوماً، واستطاعوا من خلاله استیعاب ثقافات وعلوم أخرى ودمجها، أفضل بکثیر من الوقوف على ما أنتجوا من جزئیّات المعارف وکثرة التفاصیل، فالنتائج والثمار تأتی نتیجة طبیعیّة بعد بناء الأسس والأرکان. لذلک یمکن القول إنّ "ولاءنا لآبائنا یجب أن یکون فی محاکاتهم فی وقفتهم تجاه الحیاة، لا فی إعادة ما صنعوه حرفاً بحرف"[18]؛ لأنّ المشکلة "لا تکمن فی الحضارة، ولا فی التراث؛ وإنّما تکمن فی النظام الثقافیّ الذی طوّرناه نحن فی القرون الحدیثة؛ من أجل استیعاب هذه الحضارة وهذا التراث. إنّها تکمن فی فاعلیّتنا، أو بالأحرى لافاعلیّتنا الثقافیّة والعقلیّة الحدیثة"[19].
وللأسف، فإنّ غیاب التفریق بین الأصول والفروع منهج لم یسقط فیه بعض المدافعین عن الدین فقط؛ بل سقط فیه حتى الناقمون من المستشرقین والمغالون من العلمانیّین الحاقدین؛ ما جعل هؤلاء یخلطون فی أحیان کثیرة بین أصول الدین وتجارب تاریخیّة مرتبطة بأصحابها تشکّل فهماً معیّناً للدین. ومعلوم أنّ المنهج العلمیّ لنقد التراث یقتضی الاطّلاع على معارفه والاستئناس بمقاصده؛ حیث إنّ کثیراً ممّن تصدّوا لنقد التراث "تکلّموا فیه بما لا یعرفون، وتطاولوا على البثّ فی ما لا یفقهون... فکیف یصحّ -إذاً- لمن لا یجید لغة التراث أن یدّعی لنفسه القدرة على تقویمه! فمن أین یقع على حقیقة مضامینه وعلى کنه آلیاته!" [20]. هذا الشرط العلمیّ لازم، لیس فقط لتقویم التراث؛ وإنّما لتقویم کلّ مجال علمیّ أو معرفیّ وتصویبه.
ومن مضامین المسبقات والقبلیّات التی تحکم بعض الباحثین: تصیُّد الشاذّ والغریب من الأقوال والعبارات التی نُقِلَت فی التراث، خاصّة فی جانبه الفقهیّ، والتغاضی والتغافل عن البحر المضیء من معارفه وتجاربه التی تشکّل فی کثیر منها منارات هادیة عبر الزمان والمکان. وهذا المنهج الذی أسّسه المستشرقون الناقمون على تراث الأمّة، تشرّبه -للأسف، بوعی أو بدون وعی- العدید من المثقّفین والمفکّرین العرب، "فما کان یجب أن یُعظّم من معان متأصّلة، ذهبوا إلى تحقیره من غیر تحسّر، وما کان یجوز تحقیره من وسائل مقتبسة، ذهبوا إلى تعظیمه من غیر تقتّر"[21] و "لا یطلب الشاذّ إلا من یرید الزیغ عن الحقّ والمروق، ولا یطلب الغریب إلا من یرید المخالفة والظهور"[22]، علما أنّ الوقوف على هذه المنزلقات للتصحیح والتصویب یُعدّ أمراً مطلوباً فی حدّ ذاته. أمّا تصیّدها للتشفّی والتحقیر، والقیاس علیها لإسقاط الکلّ فی سلة واحدة، فهذا منهج متحامل بعید عن الإنصاف والموضوعیّة والعلمیّة.
ثالثاً: وحدة النصّ وتعدّد الفهم:
إنّ النصّ الشرعیّ (قرآناً وسنّة نبویّة) واحد لا یتغیّر، لکنّ الفهم متعدّد، والدین واحد لا یتغیّر، لکنّ أشکال التدیّن مختلفة. لقد کان الإسلام دین جمیع الأنبیاء (عله)[23]، ولکنّ شرائعهم مختلفة ومتعدّدة بتعدّد طرق التدیّن بهذا الدین الواحد ومناهجه: {لکل جعلنا منکم شرعة ومنهاجا}[24]. نتیجة لذلک کلّه، فإنّنا نجد مدارس التفسیر المختلفة التی تتّفق فی تفسیرها لبعض النصوص وتختلف فی أخرى؛ نظراً إلى تباین مداخل البشر فی الفهم. کما نجد کتب السنّة المتعدّدة، والمذاهب المختلفة التی تعدّدت مناهجها وطرق استنباطها.
ولا ضرر فی أنْ ینحاز کلّ واحد إلى مدرسة معیّنة أو مذهب معیّن، فیتعلّمه ویدافع عنه؛ وإنّما یحصل الضرر إذا تحوّل الأمر إلى تعصّب وتدابر وتصادم، مع النظر إلى الطرف أو الأطراف الأخرى بعین العداوة والحقد، وأحیاناً یصل الأمر إلى حدّ الاقتتال، کما حدث فی عدد من التجارب السابقة، وفی عدد من مناطق العالم الإسلامیّ المعاصرة.
ویقتضی هذا المحدّد الإیمان بقناعة راسخة؛ مفادها أنّ "الاختلاف ثراء فکریّ، وتنوّع ثقافیّ، وهو من سنن الحیاة، غیر أنّ الممارسات الخاطئة هی التی أفسدت جمال التنوّع، وألوان الطیف، والحقیقة أنّ المذاهب الإسلامیّة من حیث الفقه لا تختلف جوهریّاً إلى درجة الخلاف، وتبقى فی دائرة الاختلاف، لکنّ شخصنة المذاهب جعلتها غیر قادرة على الخروج من دائرة ضیّقة تتلاءم مع رؤیتنا لهذا الشخص أو ذاک"[25].
کما إنّ الإسلام یعطی مبدئیّاً لکلّ أحد حرّیّة إبداء ما یعتقد به من أقوال وآراء، وهذه الحرّیّة الفکریّة قد تقود أحیاناً إلى الشطط والإسفاف والضلال، ولکنّ الحد منها -أیضاً- قد یقود إلى الانغلاق والمصادرة والحجر والرکون، وإلى الخرافة والجهل والتعصّب. لهذا فتح الإسلام مجال الرأی وحرّیّة الفکر، علماً أنّ الفکر الذی سیصمد ویستمرّ له میّزات خاصّة تمکّنه من القدرة على البقاء والمدافعة[26]، قال تعالى: {فأما الزبد فیذهب جفاءً وأما ما ینفع الناس فیمکث فی الأرض، کذلک یضرب الله الأمثال}[27]. فالغنى العلمیّ لا یکون بالحجر على الفکر والتضییق علیه؛ وإنّما بالسماح له بالامتداد والتوسّع، وبقدر توسّع الکون ستتّسع المعرفة {وإنّا لموسعون}، فلماذا التضییق والحال أنّ علمنا محدود: {وما أوتیتم من العلم إلا قلیلاً}[28]، ودائرة المجهول أوسع من دائرة المعلوم؟
من الأخطاء الکبیرة ما جرى من بدایة انحراف الفهم والاستمداد عندما بدأت مدارس أو فرق واتّجاهات تعمد إلى محاصرة الوحی بأفهامها، مدّعیة حیازة التأویل الصحیح للمقدّس، فلم تسمح له بالامتداد إلا بمقدار ما تسمح به عقولها ومدارکها، فتحرم بذلک عقولاً أخرى من حظّها فی الفهم، وتصادر حقّها فی الرأی والاجتهاد، ومن ذلک -أیضاً- إحاطته بقیود وضوابط اجتهادیّة، وحمل ألفاظه ومعانیه على تخصّصات مدرسیّة معیّنة، بالشکل الذی یحجب الدلالات المنفتحة والمستوعبة لتلک الألفاظ والمعانی[29]، حتى "أضحت کثیر من المفاهیم والمصطلحات التی صاغت وتصوغ ثقافتنا معرفة بالتاریخ لا بالوحی. وحدودها مدرسیّة مذهبیّة تعلیمیّة أکثر منها تشریعیّة کلّیّة، حیث انحصرت الدلالات الشرعیّة وانتشرت الدلالات التاریخیّة"[30]. وفی هذا تضییق وحجر على الفهم والإبداع وحدّ للمعرفة من التطوّر. ونجد مثالاً راقیا عند ابن رشد الحفید (520-595هـ.ق/ 1126-1198م) الفقیه الأصولیّ والفیلسوف المتکلّم، الثائر على التقلید والمقلّدین، یقول متحدّثاً عن مصادرة مفهوم "الأفقه" (اسم التفضیل من الفقه) فی زمانه: "کما نجد متفقّهة زماننا یظنّون أنّ الأفقه هو الذی حفظ مسائل أکثر، وهؤلاء عرض لهم شبیه ما یعرض لمن ظنّ أنّ الخَفَّافَ هو الذی عنده خفاف کثیرة لا الذی یقدر على عملها، وبین أنّ الذی عنده خفاف کثیرة سیأتیه إنسان بقدم لا یجد فی خفافه ما یصلح لقدمه، فیلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذی یصنع لکلّ قدم خفاً یوافقه، فهذا مثال أکثر المتفقّهة فی هذا الوقت"[31]. فما قیمة هذا الحِمل الثقیل من الفقه إنْ لم یکن أساس وجوده حلّ مشکلات الزمان ومستجداته؟ وماذا عساه أن ینفع إنْ لم نجد فیه ما نبنی علیه لإزالة الإشکال وإراحة الأنام؟ فالفقه تراکم مستمرّ، السابق منه أساس للاحق، ولا شکّ فی أنّ فیه طفرات نوعیّة، فعندما لا یکون للنازلة حکم مماثل أو شبیه یمارَس الفقه فی أبهى صوره وأحسن حلله، من خلال إعمال النقل والعقل وغیرها من أصول الاستدلال والاستنباط، فی تکامل عجیب مع مقاصد الشرع وظروف الواقع.
هذا التنوّع یغنی الحقائق ویوضّحها أکثر؛ إذ إنّ "الحقیقة تظلّ بعیدة المنال، ویظلّ لکلّ البشر الحقّ، وعلیهم الواجب أن یسعوا إلى معرفتها، وکلّ منهم سیتوصّل إلى معرفة شیء غیر متطابق مع الآخر، سیعرف بعضاً من جوانبها؛ لأنّه کلّما درنا حول الحقیقة کلّما رأیناها فی صورة مختلفة. ولذلک یظلّ إرداف کلّ قول بـ «والله أعلم» معبّراً عن انفتاح النسق، ومحدّداً للإبستمولوجیا الإسلامیّة، ومحقّقاً لرضاء الإنسان عن نفسه وجهده، وقناعته بأنّه لیس الأعلم؛ وإنّما هو واحد من الذین یعلمون"[32].
ویجد المتأمّل فی شبکة المفاهیم المتداولة فی الثقافة الإسلامیّة، اختلافات بیّنة فی مدلولاتها وحمولاتها، قد تصل -أحیاناً- إلى الاختزال البخیس المخلّ، أو الشمول الفضفاض المملّ؛ ما یستدعی حذراً شدیداً فی التعامل مع هذه المفاهیم. قد یحصل تطوّر أو تغیّر دلالیّ بفعل حرکة التاریخ وتطوّر الحضارة والعمران، فتتمّ عملیّة التصویب والتسدید من خلال بناء تعاریف جدیدة أکثر استیعاباً وشمولاً لدلالات لم تستوعبها التعاریف السابقة أو السائدة، فتکون للدلالات الجدیدة قدرة أکبر على توجیه مسار البحث والفکر والثقافة الإسلامیّة.
فقد عُرّف الفقه -مثلاً- بأنّه "العلم بالأحکام الشرعیّة العملیّة المستنبطة من أدلّتها التفصیلیّة"[33]، کما عُرّف بأنّه "الفهم والوعی والإدراک لجملة حقائق ومعارف متعلّقة بالکون وبالشرع"[34].
وجاء فی تعریف الاجتهاد أنّه "بذل الوسع فی نیل حکم شرعیّ عملیّ بطریقة الاستنباط"[35]، ومن تعریفاته -أیضاً- أنّه "بذل الجهد فی العادة والعبادة".
وقیل فی التجدید إنّه "إحیاء السنّة، ومحاربة البدعة، وإکثار العلم"[36] (الترکیز على دائرة العلوم الشرعیّة المحضة)، ولکنّه عُرّف -أیضاً- بأنّه "النظر فی آیات الآفاق والأنفس، وما یلزم فیهما من علوم مؤسّسة لحضارة الأمّة فی هذا الاتّجاه. والکلّ یفقه عن الله تعالى فی آیاته النصّیّة والإنسانیّة والکونیّة"[37].
والتقلید "لا یعنی -معرفیّاً- مجرّد «قبول قول الغیر بلا حجّة»، کما عرّفه علماء أصول الفقه، ولا یعنی مجرّد «محاکاة الغیر ومتابعته»، کما هو فی العرف السائد"[38]؛ ولکنّه "حالة نفسیّة وعقلیّة تصیب الأمم، فتجعل المصاب فی حالة کسل عقلیّ، واسترخاء ذهنیّ، وبلادة نفسیّة؛ فهو فی حالة تلقٍّ، مستسلم على الدوام، ینتظر من یثیر له الأسئلة والإشکالات؛ لیوجد عنده قدراً من التوتّر البارد قد یدفعه إلى البحث المحدود القاصر، فإمّا أنْ یرجع إلى التراث أو الآخر"[39]، وإذا کان علم الکلام -سابقاً- یحمل مضمون "الحجاج عن العقائد الإیمانیّة، بالأدلّة العقلیّة، والردّ على المبتدعة المنحرفین فی الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنّة[40]؛ فإنّ علم الکلام المعاصر یعرف تجدیداً مطّرداً؛ باستفادته من مختلف التطوّرات الحاصلة فی کلّ العلوم، حیث طوّر آلیّات الاستدلال، ومناهج التأویل، والهرمنیوطیقا، والتحلیل، والتفکیر.
وهدفی من إیراد هذه التعاریف (مع منهج الاختیار المتعمّد) هو التأکید على حقیقتین: الأولى: أنّ العدید من المفاهیم التی کانت لها دلالات کلّیّة مستوعبة، تمّ تحجیم دلالاتها؛ لتقتصر على جوانب ضیّقة أو خاصّة بمجال تداولی معیّن، والثانیة: أنّ العدید من المفاهیم کان تداولها عبر التاریخ مختزلاً، حیث کان الأصل هو الدلالات الجزئیّة الخاصّة، وتمّ إغفال باقی الدلالات الأخرى، فتمّ الاستدراک بتصحیح دلالاتها المستوعبة الشاملة.
وعموماً، لا ینبغی أن تبقى المفاهیم جامدة وفق محدّدات زمنیّة معیّنة؛ وإنّما ینبغی أن تتحرّک وتسایر الإیقاع الزمنیّ المتغیّر، وإلا ستبقى متجاوَزة، وبذلک یصیبها الوهن والنسیان والموت.
والمنهج القویم فی تعاملنا مع المفاهیم یقتضی الإبقاء على الدلالات المستوعبة الشمولیّة المنتمیة إلى إطارها العامّ، مع إمکانیّة تنزیل المفهوم على مجال تداولیّ خاصّ؛ أی إنّ المفهوم یشتغل فی دائرتین: دائرة الاشتغال العامّة، وهی الأصل، ثمّ دائرة الاشتغال الخاصّة، وهی الفرع. وهذه الدلالة الثانیة تتغیّر حسب نوعیّة المجال التداولی ومنهجه المدروس فی الحقول المعرفیّة المختلفة. وبالتالی نکون قد حافظنا على الدلالة الحقیقیّة العامّة للمفهوم التی بطبیعتها ستکون منفتحة حین نودّ دراسة أنموذج معرفیّ معیّن فی مجال من المجالات، وهذا ما یعطی للمفاهیم خصوبة وحرکیّة داخل المرجعیّات المختلفة ومجالات التداول المتباینة.
ولذلک، فالنخب الفکریّة بمشاربها المتعدّدة مطالبة بأنْ تظهر وعیاً وفهماً ونضجاً أفضل اتّجاه المفاهیم والقضایا الإشکالیّة الجدلیّة التی تشغل اهتمامها، فمن شأن هذا المنهج إغناء العلم والمعرفة، واستئناف التجدید فیها، ومن ثمّ لا بدّ من تواصل فکریّ وعلمیّ بین جمیع مکوّنات الأمّة، تواصل قائم على قیم قبول الآخر وأخلاقیّاته والاعتراف بوجوده؛ حتّى لا "یفقد الحوار الفکریّ مبرّرات وجوده، وتهدر فاعلیّة عقول أبناء الأمّة، وتفقد فصائلها على مختلف المستویات إمکانات الفهم المتبادل، والحوار المشترک، وبناء قواعد التراکم المعرفیّ، وقدرات التقویم والنقد والتصحیح، فضلاً عن التحلیل والتفکیک والترکیب؛ وبذلک یصبح عالم الأفکار فارغ المعنى، فاقد المضمون، وتفقد الفکرة قیمتها وأهمّیّتها[41].
خاتمة:
إنّ مجموع المحدّدات -التی أشرنا إلیها- تشکّل فیما بینها وحدة موضوعیّة متکاملة؛ فمحدّد الفصل بین الشرع والتاریخ یمکّننا من رؤیة متجدّدة للشرع عبر التاریخ، ومحدّد التمییز بین الأصول والفروع یبرز خصائص المرونة والعالمیّة والشمول التی تمیّز الشرع الربّانیّ عن غیره من النّظم الوضعیّة، أمّا محدّد وحدة النصّ وتعدّد الفهم، فیعطی مجالاً رحباً لتفاعل العقل مع النصّ فی ضوء الواقع المتغیّر المتجدّد، کما یبرز تفاوت الأفهام وتلاقح الأفکار للوصول إلى أرقى الحلول وأقوم المسالک.
وکما تُظهر التحلیلات السابقة، فإنّ الإشکالیّة مرکّبة ومعقّدة، تحتاج إلى جهود لضبط مظاهرها وتجلّیاتها، خاصّة مع وجود أطیاف فسیفسائیّة فی الساحة الفکریّة والدینیّة منها على وجه الخصوص؛ ما یجعل أوّلیّة البحث عن النقاط المشترکة ضرورة ملحة، لتنمیتها وتوسیعها والبناء علیها. فنحن أمام جدلیّة ثنائیّة الذات والموضوع: موضوع یحوم حول مقصد العبادة وتحقیق الاستخلاف، وذات ینبغی أن تکون منصفة متجرّدة من الحمولات المسبقة متحیّزة "للحقّ" الذی تقتنع به، من دون مصادرة الآخر لأحقّیّته فی التفکیر والاقتراح لنصرة "الحقّ" الذی یعتقده.
ومهما کانت درجة الاختلاف، ینبغی أن یظلّ اختلافاً سلمیّاً مبنیّاً على الاحترام والتفاعل والحوار، بدل القطیعة والإقصاء والتهمیش والتحقیر والتنقیص. ولا شکّ فی أنّ هذا المنهج القویم قد بدأت بوادره تتّسع شیئاً فشیئاً، والمطلوب هو تنمیته والمحافظة علیه؛ لیصل إلى تعاقد اجتماعیّ وفکریّ وثقافیّ یشکِّل ضرورة من ضرورات الحیاة، یتنفّسه الجمیع کما یتنفس الهواء؛ لأنّ کرامة الإنسان مرهونة بحرّیّته، وعزّته مرهونة بإنسانیّته.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] الریسونی، أحمد: "فقه الثورة، مراجعات فی الفقه السیاسیّ الإسلامیّ، ط1، بیروت، مرکز نماء للبحوث والدراسات، 2012م، ص11.
[4] شعیب، قاسم: تحریر العقل الإسلامیّ، ط2، الدر البیضاء، المرکز الثقافی العربی، 2013م، ص25-26.
[5] حاج حمد، أبو القاسم: القرآن والمتغیّرات الاجتماعیّة والتاریخیّة، ط1، بیروت، دار الساقی، 2011م، ص26-27.
[6] الجوزیّة، ابن القیم: إعلام الموقعین عن رب العالمین، شرح وتحقیق: رضوان جامع رضوان، ط1، القاهرة، مکتبة الإیمان، 1419هـ.ق/ 1999م، ج3، ص3.
[7] الریسونی، فقه الثورة، مراجعات فی الفقه السیاسیّ الإسلامیّ، م.س، ص14.
[9] الرفاعی، عبد الجبار: إنقاذ النزعة الإنسانیّة فی الدین، ط2، بیروت؛ القاهرة؛ تونس، دار التنویر للطباعة والنشر، 2013م، ص132.
[10] الریسونی، أحمد: "الاجتهاد؛ النصّ، الواقع، المصلحة"، ط2، بیروت، الشبکة العربیة للأبحاث والنشر، 2013م، ص24-25.
[11] الرفاعی، إنقاذ النزعة الإنسانیة فی الدین، م.س، ص131.
[12] النشار، علی سامی: نشأة الفکر الفلسفیّ فی الإسلام، ط4، القاهرة، دار المعارف، 1966م، ج1، ص2-3 .
[13] العلوانی، طه جابر: ابن رشد الحفید، الفقیه الفیلسوف، ط1، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزیع والترجمة، 2010م، ص33.
[14] شبار، سعید: الاجتهاد والتجدید فی الفکر الإسلامیّ المعاصر دراسة فی الأسس المرجعیّة والمنهجیّة، ط1، المعهد العالمی للفکر الإسلامی، 2007م، ص183.
[15] النجّار، عبد المجید: "فی فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً"، ضمن کتاب الأمّة، العدد23، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیّة، 1410هـ.ق، ج1، ص78.
[16] شبار، الاجتهاد والتجدید فی الفکر الإسلامیّ المعاصر، م.س، ص185.
[17] الریسونی، فقه الثورة، مراجعات فی الفقه السیاسیّ الإسلامیّ، م.س، ص17-18.
[18] الرشدان، محمود عاید: "حول النظام المعرفیّ فی القرآن الکریم"، مجلة إسلامیة المعرفة، السنة الثالثة، العدد العاشر، ص12.
[19] غلیون، برهان: اغتیال العقل، محنة الثقافة العربیّة بین السلفیّة والتبعیّة، ط3، الدار البیضاء، المرکز الثقافی العربی، 2004م، ص20.
[20] عبد الرحمن، طه: تجدید المنهج فی تقویم التراث، ط3، الدار البیضاء، المرکز الثقافی العربی، 2007م، ص10.
[23] الإسلام هنا بمعنى الاستسلام والخضوع والانقیاد لأمر الله تعالى الخالق المصوّر لهذا الکون، الاستسلام لله بالتوحید والانقیاد له بالطاعة والبراءة من الشرک وأهله. والأصل فی اشتقاقها الفعل (سَلِمَ). ویأتی استعمالها فی اللغة على عدّة معانٍ: الخلوص والتجرّد، الإذعان والطاعة، المصالحة والأمن. والآیات الدالّة على ذلک من القرآن الکریم متعدّدة متظافرة.
[24] سورة المائدة، الآیة 48.
[25] تاجا، وحید: التقارب السنّی - الشیعیّ، بین حقّ الاختلاف ودعوى امتلاک الحقیقة، دمشق، دار الفکر، 2008م، ص32.
[26] الإشکال هنا یتأسّس بدرجة أولى على طریقة النظر إلى القرآن الکریم، وسبل تنزیله على الواقع، ولا أدلّ على ذلک أنّ من بین مئات التفاسیر التی ظهرت عبر التاریخ الإسلامیّ لم یصمد بالبقاء منها والتداول إلا نماذج یسیرة، وأنّ نسبة کبیرة من مضمون هذه النماذج المتبقّیة بحاجة إلى إعادة النظر، وتجدید التدبّر؛ بناءً على المتغیّرات الاجتماعیّة والتاریخیّة، وکذا المناهج المعرفیّة الحدیثة. وهذا النظر المتجدّد مطلب للوحی نفسه، وضرورة یفرضها الواقع؛ لضمان التفاعل والتناغم والانسجام، والقدرة على مواکبة الحیاة، وکذا الانفتاح على فضاءات رحبة، والإصغاء إلى إیقاع المتغیّرات الشدیدة المعقّدة والمتنوّعة؛ وإلا ستحصل المفارقة وتغیب شروط التنزیل.
[27] سورة الرعد، الآیة 17.
[28] سورة الإسراء، الآیة 85.
[29] شبار، الاجتهاد والتجدید فی الفکر العربیّ والإسلامیّ المعاصر، م.س، ص11-12.
[30] شبار، سعید: النخبة والأیدیولوجیّة والحداثة فی الخطاب العربیّ المعاصر، ط2، بنی ملال - المغرب، مرکز دراسات المعرفة والحضارة، کلّیّة الآداب والعلوم الإنسانیّة، 2012م، ص7.
[31] ابن رشد، محمد: بدایة المجتهد ونهایة المقتصد، تحقیق: عبد الله العبادی، ط1، دار السلام للطباعة والنشر والتوزیع، 1416هـ.ق/ 1995م، ج2، ص163.
[32] مجموعة من المؤلّفین: قضایا إشکالیّة فی الفکر الإسلامیّ المعاصر، تحریر وإشراف: نصر محمد عارف، ط1، "سلسلة قضایا الفکر الإسلامیّ 16"، المعهد العالمی للفکر الإسلامی، 1418هـ.ق/ 1997م، ص8.
[33] انظر: الأسنوی، عبد الرحیم: نهایة السول فی شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، تحقیق: شعبان محمد إسماعیل، ط1، بیروت، دار ابن حزم، 1420هـ.ق/ 1999م، ج1، ص16؛ الزحیلی، وهبة: الفقه الإسلامی وأدلّته، ط1، دمشق، دار الفکر، 1405هـ.ق/ 1985م، ج1، ص16.
[34] شبار، الاجتهاد والتجدید فی الفکر العربیّ والإسلامیّ المعاصر، م.س، ص185.
[35] الشوکانی، محمد بن علی: إرشاد الفحول، تحقیق وتعلیق: شعبان محمد إسماعیل، دار السلام، 1418هـ.ق/ 1998م، ج2، ص716، ص220.
[36] المناوی، محمد: فیض القدیر، ضبط وتصحیح: أحمد عبد السلام، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیّة، 1415هـ.ق/ 1994م، ج2، ص357.
[37] حوار مع الدکتور سعید شبار بموقع الرابطة المحمّدیّة لعلماء المغرب فی "الاجتهاد والتجدید فی الفکر الإسلامیّ"، یوم 07-05- 2008م، من الساعة 17:00 إلى الساعة 19:00.
[38] العلوانی، طه جابر: الخصوصیّة والعالمیّة فی الفکر الإسلامیّ المعاصر، ط1، بیروت، دار الهادی، 1424هـ.ق/ 2003م، ص23.
[40] ابن خلدون، عبد الرحمن: مقدّمة ابن خلدون، بیروت، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، 1428هـ.ق/ 2007م، ص467.
[41] نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنیّة، دراسة لسیرة المصطلح ودلالة المفهوم، ط2، فرجینیا، المعهد العالمی للفکر الإسلامی، 1415هـ.ق/ 1994م، ص9.