الاختبارات التاریخیّة للاجتهاد عند الشیعة الإمامیّة -قراءة تحلیلیّة مقارنة-
الدکتور الشیخ زکی المیلاد[1]
خلاصة:
مرّ الاجتهاد الفکریّ الشیعیّ الإمامیّ بأربعة اختبارات فکریّة فی محطّات تاریخیّة مختلفة، حیث ظهر الاختبار الأوّل فی القرن الهجریّ الأوّل مع شیوع النزعة العقلیّة فی البیئة الفکریّة الإسلامیّة، وما دار من نزاع فی هذه المحطّة التاریخیّة بین الأشاعرة والمعتزلة؛ أدّى إلى اضمحلال مذهب الاعتزال الذی تمیّز بنزعته العقلیّة، ولکنّ الاجتهاد الفکریّ الإمامیّ بقی على حیویّته ولم یتاثّر بهذا النزاع.
وفی الاختبار الثانی فی القرن الهجریّ الرابع، لم یتأثّر الاجتهاد الفکریّ الشیعیّ بما حدث عند نظیره فی الساحة السنّیّة من إعلان إغلاق باب الاجتهاد.
وفی اختبار ثالث فی القرن السادس الهجریّ لم یتاثّر الاجتهاد الفکریّ الشیعیّ بما بات یؤرَّخ له فی الدراسات الفکریّة والتاریخیّة بنهایة الفلسفة عند المسلمین، بفعل انتصار الغزالیّ صاحب "تهافت الفلاسفة"، وهزیمة ابن رشد صاحب "تهافت التهافت"، أو تقدّم الغزالی وتراجع ابن رشد، الأمر الذی یعنی توقّف الحرکة العقلیّة فی المجال الإسلامیّ أو تعثّرها أو تراجعها.
وفی اختبار رابع ظهرت فی مطلع القرن الحادی عشر الهجریّ، فی ساحة المسلمین الشیعة، نزعة فکریّة ودینیّة، عُرِفَت بـ "النزعة الأخباریّة"، وأظهرت هذه النزعة ردّ فعلٍ فی مقابل تطوّر الفکر العلمیّ عند المسلمین الشیعة فی مجال أصول الفقه، رافضة هذا المنحى، ومعارضة مسلکه العقلیّ وموقفه تجاه العقل. وقد تمکّن الفکر الإسلامیّ الشیعیّ، فی هذا الاختبار، من التغلّب على النزعة الأخباریّة التی ظهرت فی داخله، ومن الانتصار النهائیّ علیها، وتحویل وضعیّتها من التأثیر فی المرکز إلى التأثیر فی الهامش. وهذا هو حالها الیوم فی البیئات والمجتمعات التی ظهرت فیها.
مصطلحات مفتاحیّة:
الاختبارات التاریخیّة، الاجتهاد الإمامیّ، الاجتهاد السنّی، المعتزلة، الشاعرة، الفلسفة، النزعة العقلیّة، سدّ باب الاجتهاد، النزعة الأخباریّة، النزعة الأصولیّة...
مقدّمة:
شهد الفکر الإسلامیّ الشیعیّ، ما بین العصرین القدیم والوسیط، اختبارات فکریّة کانت مؤثّرة وخطیرة للغایة، خرج منها سالماً ومتفوّقاً، محافظاً على توازنه وتماسکه الفکریّ والروحیّ، ولم یتقهقر أو یتراجع أو ینتکس، فی حین أحدثت انسداد وانغلاقاً فی الاجتهاد السنّی، امتدّ أثره إلى واقعنا المعاصر؛ بحکم أنّ أغلب الحکومات والدول التی حکمت المسلمین قدیماً أو تحکمهم حالیّاً تستند إلى الفقه السنّیّ. وقد تأثّر الواقع الشیعی من هذا الأمر على المستوى الاجتماعی والسیاسیّ، ولکنّه بقی على مستوى الاجتهاد الفقهی والفکریّ منفتحاً لا تواجهه أزمة الانسداد والإغلاق. ویمکن رصد أربعة اختبارات فکریّة فی محطّات تاریخیّة مختلفة مرّ بها الفکر الاجتهادیّ الإسلامیّ عند الشیعة الإمامیّة، وهو ما سوف نحلّله ونقارنه مع مثیله من الاجتهاد السنّی فی طیّات هذه المقالة.
أولاً: الاختبار الأوّل:
ظهر مذهب الاعتزال فی القرن الهجریّ الثانی فی ساحة المسلمین؛ بوصفه أوّل حرکة عقلیّة تکوّنت فی تاریخ الإسلام الفکریّ، حیث عدّه البعض من أخصب المدارس العقلیّة فی الإسلام[2]، ومثّل روّاده ما یسمّى بـ "العقلانیّة"، ومنه بدأ الإبداع الفلسفیّ فی الإسلام[3].
وقد تمّسک أصحاب هذا المذهب بدور العقل فی فهم الدین إلى أبعد حدود، فی محاولة لاستکشاف دور العقل فی المجال الإسلامیّ.
والمفارقة أنّ هذا المذهب جُوبِهَ فی المجال الإسلامیّ السنّیّ بمعارضة شدیدة وعنیفة، حیث تعرّض إلى الحصار والتضییق؛ ما أدّى إلى تراجعه وتقهقره مع مرور الوقت، ثمّ اضمحلاله وتلاشیه، فلم یبق منه الیوم إلا مجرّد بقایا أثر لا تکاد تُذکَر.
وبخلاف هذا الموقف تماماً، تعامل الفکر الإسلامیّ الشیعیّ مع مذهب الاعتزال بإیجابیّة وتفاعل وانفتاح، ولم یسجّل التاریخ على الفکر الإسلامیّ الشیعیّ أنّه کان طرفاً فی هذه المجابهة والمواجهة والإقصاء والإلغاء الذی تعرّض له المعتزلة.
وهذا الموقف یُسجَّل تاریخیّاً للفکر الإسلامیّ الشیعیّ، ویکشف من وجه آخر عن أحد صور العلاقة بین الفکر الإسلامیّ الشیعیّ وحرکة العقل والعقلانیّة فی المجال الإسلامیّ.
ومع تراجع المعتزلة وتقدّم خصومهم الذی دام واستمرّ منذ ذلک الوقت إلى الیوم، تغیّرت صورة الموقف تجاه العقل والعقلانیّة فی ساحة الفکر الإسلامیّ، وأصبحت شبهة الاعتزال والمعتزلة تلاحق کلّ مَنْ یدعو إلى العقل والعقلانیّة، من دون فرق أو تمییز بین من یقترب من المعتزلة ومن یبتعد عنهم، وبین من یتّفق معهم ومن یختلف، وبات فی نظر البعض أنّ "کلّ من نهج النهج العقلیّ فی الدین فی العصر الحاضر، إنّما هو تابع من أتباع المعتزلة"[4].
ویرى أحد الباحثین أنّ من صور تأثیر تراجع المعتزلة فی تغیّر الموقف تجاه العقل، أنّهم کانوا "هم السبب فیما لجأ إلیه أهل السنّة من رفض أحادیث العقل لتأثّرهم بالفلسفة"[5]، حیث قام حول هذه الأحادیث بالذات "جدل کبیر بین علماء المسلمین، فمنهم من رفضها رفضاً قاطعاً، وادّعى أنّه لم یصحّ حدیث واحد فی العقل، ومنهم من قَبِلَ هذه الأحادیث، أو قَبِلَ قسماً منها مع التضعیف؛ وذلک ربّما یرجع إلى تصادم الآراء بین المعتزلة الذین غالوا فی تقدیر العقل، وبین أحمد بن حنبل وأهل الحدیث ممّن وقفوا فی وجه هذه المغالاة، والتزموا بالنصّ"[6].
وللبرهنة على هذا الأمر، أشار الباحث إلى ما تشکّل من موقف تجریحیّ تجاه أوّل کتابین فی فضل العقل: الکتاب الأوّل من تصنیف داود بن المحبر (ت: 206هـ/ 821م)، والکتاب الثانی من تألیف ابن أبی الدنیا (ت: 281هـ/ 894م)؛ إذ جرى تکذیب الأحادیث الواردة فی هذین الکتابین حول فضل العقل.
ومن بین الأقوال الواردة فی هذا الشأن، توقف الباحث عند قول یحیى بن معین وموقفه من ابن المحبر؛ إذ قال عنه: "صحب قوماً من المعتزلة، فأفسدوه"، فوجد فیه إشارة إلى نقطة مهمّة ربّما تکون هی السبب الرئیس لرفض أحادیثه کلّها، وهی علاقته بالمعتزلة الذین بالغوا فی تقدیر العقل[7].
فی حین یرى باحثون آخرون أنّ تغلّب خصوم المعتزلة أدّى إلى تشکّل تصوّر مریب عن العقلانیّة، وإلى خصومة مفتعلة بین الدین والعقل، فـ "رؤیة الأشاعرة بشأن شکلیّة القیم وتجذّرها فی عقول العامّة، وتغلّبها فی المنهجیّة الرسمیّة، أدّت إلى ضمور دور العقل الإسلامیّ فی إغناء التجارب الإنسانیّة"[8]، وأنّه "قد أصبح واضحاً الیوم، أنّ المعتزلة فتحوا أبواباً شتّى أمام الفکر الإسلامیّ، وأفسحوا السبیل للدراسات العلمیّة والفلسفیّة، وفی محاربتهم واختفائهم ما أساء إلى الإسلام، وعوّق حرکة التقدّم والتطوّر"[9].
والأمر الأکید أنّ المعتزلة لو کانت هی التی بقیت وتغلّبت؛ لکانت صورة الموقف تجاه فکرة العقلانیّة عند المسلمین مختلفة عمّا هی علیه الیوم، ومن هذه الجهة یرى بعضهم أنّه لو سادت تعالیم المعتزلة فی هذین الأمرین -أی سلطان العقل وحرّیّة الإرادة بین المسلمین- فی عهد المعتزلة إلى الیوم، لکان للمسلمین موقف آخر فی التاریخ غیر موقفهم الحالی[10].
ثانیاً: الاختبار الثانی:
وجد الفکر الإسلامیّ السنّیّ نفسه مضطراً، فی القرن الهجریّ الرابع، إلى أنْ یعلن -ولأوّل مرّة فی تاریخ الثقافة الإسلامیّة، وفی خطوة غیر مسبوقة وغیر متوقّعة- عن إغلاق باب الاجتهاد.
کانت هذه أخطر أزمة فکریّة أصابت العقل الإسلامیّ فی الصمیم، وتأثّر بها الفکر الإسلامّی فی جمیع مراحله الزمنیّة والتاریخیّة، وأعاقت تطوّره وتقدّمه فی المجالات کافّة، وشلّت قدرته الاجتهادیّة فی مواکبة تطوّرات الزمن، وتحوّلات العالم، وتجدّدات الحیاة، وفی التواصل والتفاعل مع حرکة العلوم والمعارف الإنسانیّة ونهضتها.
وتکمن خطورة هذه الأزمة فی أنّها حصلت منذ وقت مبکر یرجع إلى القرن الهجریّ الرابع، وبقیت هذه الأزمة واستمرّت بکلّ تداعیاتها وتراکماتها إلى الواقع المعاصر، واعترف الجمیع بحصولها؛ فقهاء، کلامیّون، ومؤرّخون، وکشفوا عن خطورتها وفداحتها، وعرّفوا بالأرضیّات والسیاقات التی تأثّرت بها، وکیف أجبرت هذه الأزمة على اتّخاذ هذه الخطوة بالإعلان صراحة عن إغلاق باب الاجتهاد، الباب الذی ما کان ینبغی أن یغلق أبداً، بل یظلّ مفتوحاً.
وفی سیاق البحث عن أسباب هذا الإغلاق، ورد مجموعة من التفسیرات؛ فقیل على لسان العلماء والفقهاء والمؤرّخین إنّ إغلاق باب الاجتهاد جاء لوضع حدّ لحالة الفوضى والاضطراب التی بلغت فی المجال الدینیّ والفقهیّ درجة حرجة وخطیرة، ونقل الخطیب البغدادی فی کتابه "تاریخ بغداد"، أنّ بعضهم صار یحلّل تارة ویحرّم تارة فی القضیّة الواحدة.
وقیل إنّ هذا الإغلاق جاء لإیقاف تدخّل الحکّام وأهل السیاسة فی أمور الشریعة والدین؛ وذلک بعد أن تمادى هؤلاء فی تدخّلاتهم، وسوّغوا لأنفسهم هذا العمل من دون وجه حقّ، وتعمّدوا إثارة النزاع والشقاق والانقسام بین العلماء والمذاهب والجماعات، بتغلیب طرف على طرف آخر، وترجیح رأی فی مقابل رأی آخر، وتقریب جماعة على حساب جماعة أخرى، وهکذا. وأوضح شاهد على ذلک قضیّة خَلْق القرآن التی وُصِفَت فی تاریخ الثقافة الإسلامیّة بالمحنة، فی إشارة إلى خطورتها، وکیف أنّها أحدثت شرخاً وانقساماً فی الأمّة ما زال إلى الیوم حاضراً فی ذاکرة الثقافة الإسلامیّة.
وقیل إنّ هذا الإغلاق حصل فی ظرف شاع فیه التعصّب المذهبّی، الذی کرّس الخلافات، وأورث النزاعات الفقهیّة والکلامیّة، وکانت له امتدادات وتداعیات ثقافیّة واجتماعیّة فی مجتمعات المسلمین، وقد ضاقت الأمّة ذرعاً من هذا التعصّب الذی رسّخ حالة الجمود والتقلید، وعطّل حالة الإبداع والابتکار، وأخذ البعض یتحدّث عن حالة من الانحطاط الفکریّ والثقافیّ التی أصابت الأمّة.
هذه الأزمة والوضعیّات التی تولَّدت منها، وما ترتّب علیها، کانت لها تداعیات مباشرة على فکرة العقلانیّة، فقد أسهمت فی تعطیل نموّ هذه الفکرة وتطوّرها فی ساحة المسلمین، وأدّت إلى ضمورها وتراجعها، وحجبت الرؤیة عنها، وقلبت طریقة النظر إلیها، وغلّبت موقف الخشیة منها.
ولو أنّ باب الاجتهاد بقی مفتوحاً؛ لکانت صورة الموقف تجاه العقل والعقلانیّة فی ساحة الفکر الإسلامیّ مختلفة عمّا هی علیه الیوم.
وبخلاف هذا الموقف تماماً، ما حصل فی المجال الإسلامیّ الشیعیّ الذی لم یتعرّض إلى الأزمة الفکریّة والسیاسیّة التی تعرّض إلیها الفکر الإسلامیّ السنّیّ، ولم یجد نفسه فی کلّ الأزمنة التی مرّت علیه فی موقف الاضطرار؛ لعدم إغلاقه باب الاجتهاد، الذی بقی وما زال مفتوحاً، وبفضله أصبح الفکر الإسلامیّ الشیعیّ یتّسم بالفاعلیّة والدینامیّة، وفی حالة من الیقظة الفکریّة والاجتهادیّة على طول الخطّ.
ومن وجه آخر، یُعدّ الاجتهاد أحد أهمّ المفاهیم التی ابتکرتها المنظومة الإسلامیّة، وانفردت بها الحضارة الإسلامیّة؛ فقد نشأ وتطوّر فی الإطار الزمنیّ والتاریخیّ لهذه الحضارة، وترک تأثیراً مهمّاً فی منظومة الثقافة الإسلامیّة، بکلّ مکوّناتها وتشکّلاتها، وحرکاتها ومساراتها. هذا المفهوم الذی یحتاج الیوم إلى حفریّات معرفیّة جدیدة، لاستظهار مدلولاته، والکشف عن مکوّناته العمیقة والمتجدّدة والفاعلة، وبوصفه المفهوم الذی یقارب مفهوم الحداثة.
وبعد التحقیق، وجدت أنّ الاجتهاد بضرب من توسیع المفهوم إلى الاجتهاد العلمیّ أو المعرفیّ أو روح الاجتهاد، یوازی من حیث الأهمّیّة مفهوم الحداثة عند الغرب؛ لأنّه یتمثّل العناصر الأساسیّة المکوّنة لبنیة مفهوم الحداثة؛ وهی عناصر العلم، والعقل، والزمن[11].
ثالثاً: الاختبار الثالث:
حصل فی القرن السادس الهجریّ (الثانی عشر المیلادیّ) ما بات یؤرَّخ له فی الدراسات الفکریّة والتاریخیّة بنهایة الفلسفة عند المسلمین، بفعل انتصار الغزالیّ (450-505هـ/1056-1111م) صاحب "تهافت الفلاسفة"، وهزیمة ابن رشد (520-595هـ/1126-1198م) صاحب "تهافت التهافت"، أو تقدّم الغزالی وتراجع ابن رشد، الأمر الذی یعنی توقّف الحرکة العقلیّة فی المجال الإسلامیّ أو تعثّرها أو تراجعها.
وکانت لهذه الأزمة ارتدادات شدیدة على مسارات الفکر الإسلامیّ فی جمیع مراحله وأطواره، ظلّت حاضرة ومؤثّرة على طول الخطّ، حیث توقّف عندها المؤرّخون فی دراساتهم التاریخیّة، وذکرها المفکّرون فی کتاباتهم الفکریّة، ورجع إلیها المتکلّمون فی أبحاثهم الکلامیّة، وما زالت هذه الأزمة تحتفظ بهذا الارتداد إلى الیوم، وکأنّها حصلت بالأمس القریب، لا فی القرن السادس الهجریّ (الثانی عشر المیلادیّ).
وقد تشکّل انطباع عامّ على أثر هذه الأزمة مفاده أنّ الغزالی سدَّد ضربة موجعة لفکرة العقلانیّة فی ساحة الفکر الإسلامیّ، حیث جمّدت فاعلیّة هذه الفکرة، وشلّت قدرتها، وأعاقت نموّها، وأطفأت شعلتها، وأدخلتها فی أزمة طویلة امتدّت إلى واقعنا المعاصر.
وتکرّر هذا الانطباع وتواتر کثیراً فی کتابات تاریخیّة وفکریّة وکلامیّة، وأشار إلیه عدید من الباحثین والمؤرّخین العرب والمسلمین، وحتى الأوروبیّین؛ باحثین ومستشرقین، کانوا على قناعة راسخة به. فرأى بعضهم أنّ الغزالی ختم على العقل الإسلامیّ نهائیّاً ومن دون رجعة، إلا بمراجعة کاملة من مسلمین علماء مخلصین للدین والإنسانیّة، یکون لدیهم العلم والشجاعة لمواجهة تراث شمولیّ خاطئ[12].
وحسب هذا الانطباع، یکون الغزالیّ بفلسفته الصوفیّة قد تغلّب فی ساحة الفکر الإسلامیّ على ابن رشد وفلسفته العقلیّة، ما کان إیذاناً فی نظر بعضهم إلى حصول الانتصار النهائیّ لأهل الجمود والتقلید، وبسببه بدأ النوم العمیق الذی استغرقت فیه البلاد الإسلامیّة طیلة سبعة قرون، والذی ما زال باسطاً ذراعیه على کثیر من هذه البلاد حتى یومنا هذا[13].
فی حین یرى بعضهم الآخر أنّ الغزالیّ قد کرّس وضعیّة العقل المستقیل، الذی یتّسم بفقدان الثقة فی العقل، فی وقت انتقلت فیه فلسفة ابن رشد إلى أوروبا، وأحدثت هناک تیّاراً فکریّاً ثوریّاً، حرَّک عجلة التقدّم بالصورة التی مکّنت العلم فیما بعد من أن یقوم بدوره التاریخیّ فی النهضة الأوروبیّة الحدیثة[14].
فإذا کانت هذه الفلسفة قد توقّفت أو تراجعت أو أصیبت بنکسة وأزمة، فإنّ من الثابت أنّها قد تجدّدت واستمرّت فی المجال الإسلامیّ الشیعیّ، وتحدیداً مع مدرسة أصفهان الفلسفیّة، ومع فلسفة صدر الدین الشیرازیّ (979-1050 هـ/ 1571-1640م) صاحب فلسفة الحکمة المتعالیة، بشکل أخصّ.
ویعدّ المستشرق والفیلسوف الفرنسیّ الشهیر هنری کوربان (1903-1978م) أحد أکثر الغربیّین دفاعاً عن هذا الرأی، حیث بذل جهداً واضحاً ومتماسکاً فی البرهنة علیه، وحسب رأیه فإنّ من اللغو الباطل القول إنّ الفلسفة بعد الغزالی قُیِّض لها أن تنتقل إلى غرب العالم الإسلامیّ، وإنّ من الخطأ أیضاً الزعم أنّ الفلسفة لم تقم لها قائمة بعد تلک الضربة التی وجّهها لها الغزالی؛ بل إنّ الفلسفة قد بقیت مزدهرة فی الشرق[15]. ویرى کوربان أنّ أعمال ابن رشد فیلسوف قرطبة، قد أعطت بترجمتها اللاتینیّة ما یسمّى فی الغرب بـ "الرشدیّة" التی طغت على السینویّة اللاتینیّة، وأمّا فی الشرق فقد مرّت الرشدیّة مروراً غیر ملحوظ، ولم تُعرَف فیه مدرسة ابن رشد، ولم یُنظَر إلى نقد الغزالیّ للفلسفة على أنّه وضع حدّاً للسنّة التی ابتدأها ابن سینا، ولا حتى فهمت انتقادات الغزالیّ على حقیقتها التی غالباً ما فسّرها مؤرّخو الفلسفة الغربیّون، على أنّها کانت بمنزلة ضربة قاضیة للفلسفة. وقد غاب عن بال هؤلاء کذلک، ما کان یحدث فی الشرق، حیث مرَّت مؤلّفات ابن رشد دون أثر ملحوظ، فلا دار فی خلد نصیر الدین الطوسی (597-672هـ/ 1201-1274م)، أو المیر داماد (969-1041هـ)، أو الملا هادی السبزواریّ (1212-1289هـ/1797ـ1873م) ما تُعلِّقه تواریخ الفلسفة عند الغربیّین من أهمّیّة ومعنى، على ذلک النقاش الجدلیّ الذی دار بین الغزالیّ وابن رشد؛ بل إنّنا إذا أوضحنا لهم ذلک لأثار الأمر دهشتهم، کما یثیر دهشة خلفهم الیوم[16].
وما یرید أن یصل إلیه کوربان هو أنّ مدرسة أصفهان الفلسفیّة فی القرن السادس عشر المیلادیّ، مثّلت ظاهرة لا نظیر لها فی مکان آخر من العالم الإسلامیّ؛ إذ کان یرى أنّ باب الفلسفة قد أُغلِقَ منذ أیّام ابن رشد، واعتاد المؤرّخون أن یروا فی الرشدیّة الکلمة الأخیرة فی الفلسفة العربیّة، فی حین تقدّم لنا الفلسفة الإسلامیّة فی الشرق -وعوضاً عن ذلک- معیناً لا ینتهی من المناهل والثروات الفکریّة[17].
وأشار إلى هذا الرأی أیضاً بعض الباحثین، خلال حدیثه عن صدر الدین الشیرازیّ الذی قال عنه إنّه آخر المؤلّفین الموسوعیّین فی الإسلام، معتبراً أنّ إنتاجه "الضخم نقض بلیغ للرأی الذی أخذ به عدیدون من مؤرّخی الفلسفة الإسلامیّة فی العصر الوسیط؛ وهو أنّ الغزالیّ تمکّن فی نهایة القرن الحادی عشر من توجیه ضربة قاصمة إلى الفلسفة،لم تستطع بعدها النهوض"[18].
أمّا عند الإیرانیّین -باحثین، ومفکّرین، ومؤرّخین- فإنّ هذا الرأی من المسلّمات التی لا تقبل الجدل عندهم، ولا یمکن دحضه بأیّ شکل من الأشکال، وقد ظلّوا مدافعین عن هذا الرأی على طول الخطّ. الأمر الذی یعنی أنّ الحرکة العقلیّة ظلّت فاعلة ومستمرّة فی ساحة الفکر الإسلامیّ الشیعیّ، ولم تنقطع أو تتوقّف، وفی تطوّر آخر انتقلت هذه الحرکة العقلیّة إلى ساحة أصول الفقه، الحقل الذی أصبح الأکثر تعبیراً عن موقف الفکر الشیعیّ تجاه العقل والعقلانیّة.
وعلى من یرید التعرّف على النزعة العقلانیّة عند الشیعة الإمامیّة، الذهاب إلى أصول الفقه، فهو الحقل الذی برع فیه علماء الإمامیّة، وتجلّت فیه عبقریّتهم الفکریّة والأصولیّة، وفی ساحته خاضوا معارکهم النقدیّة والحجاجیّة؛ انتصاراً للعقل والموقف العقلیّ.
وقد کشف أصول الفقه، عن نزعة عقلیّة فاعلة ومؤثّرة عند المدرسة الإمامیّة، بشکل یمکن معه القول إنّ الشیعة الإمامیّة أصحاب نزعة عقلیّة حقیقیّة.
رابعاً: الاختبار الرابع:
ظهرت فی مطلع القرن الحادی عشر الهجریّ، فی ساحة المسلمین الشیعة، نزعة فکریّة ودینیّة، عُرِفَت بـ "النزعة الأخباریّة"، ارتبطت فی وقتها بالمحدِّث محمد أمین الأسترابادیّ (ت: 1033هـ)، الذی کشف عنها وعرَّف بها، وروَّج لها فی کتابه "الفوائد المدنیّة".
وکان لهذه النزعة تأثیر واسع فی زمنها على طبقة مهمّة من رجال الدین الشیعة، حیث امتدّت إلى أبرز الحواضر والمراکز العلمیّة والدینیّة عند المسلمین الشیعة، وفی طلیعتها مدینتا النجف وکربلاء العراقیّتان، ومدینة أصفهان الإیرانیّة، ووصلت إلى البحرین على ساحل الخلیج.
وأحدثت هذه النزعة انقساماً حادّاً، هو الأشدّ من نوعه فی ما حصل بین علماء الدین الشیعة فی الفترة ما بین القرن الحادی عشر والنصف الأوّل من القرن الثالث عشر الهجریّین، وکانت لهذا الانقسام تأثیرات وتداعیات حسّاسة وحرجة امتدّت بعض آثارها إلى ما هو أوسع من المجال الفقهیّ.
وأظهرت هذه النزعة ردّ فعلٍ فی مقابل تطوّر الفکر العلمیّ عند المسلمین الشیعة فی مجال أصول الفقه، رافضة هذا المنحى، ومعارضة مسلکه العقلیّ وموقفه تجاه العقل.
هذه النزعة وضعت الفکر الشیعیّ أمام امتحان صعب وخطیر، وکادت أن ترتدّ به إلى الوراء، وتقلب علیه مساراته ومسلکیّاته الفکریّة والعلمیّة، وتغیّر فی نمط رؤیته إلى ذاته، ورؤیته إلى العالم.
وقد کشفت الطریقة التی جُوبِهَت بها هذه النزعة فی داخل المجال الشیعیّ، عن مدى الوعی بخطورة هذه النزعة، خاصّة من جهة الموقف تجاه العقل والعقلانیّة، ولو تغلّبت هذه النزعة؛ لکان الفکر الشیعیّ الیوم فی وضع آخر تماماً، لا یکاد یکون له أثر ولا تأثیر فی حرکة العصر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ظهور الاتّجاه الأخباریّ مثَّل أعظم باعث على نهضة الفکر العلمیّ الأصولیّ وتقدّمه عند الإمامیّة، ولولا ظهور هذا الاتّجاه وما مثَّله من تحدٍّ عنیف؛ ما وصل أصول الفقه والفکر العلمیّ الأصولیّ إلى ما وصل إلیه الیوم من تجدّد وازدهار.
ومن جانب آخر، فإنّ هذا التحدّی ترکّز بصورة أساسیّة فی ساحة العقل وأدلّته وحجّیّة الظواهر القرآنیّة، وفی هذه الساحة کانت المعرکة الفکریّة العنیفة بین الاتّجاهین الأصولیّ والأخباریّ، الأمر الذی اقتضى من الاتّجاه الأصولیّ أن یدخل هذه المعرکة بسلاح العقل؛ انتصاراً به، وانتصاراً له.
وبهذا السلاح تغلّب الاتّجاه الأصولیّ على الاتّجاه الأخباریّ وتفوّق علیه، وکسب المعرکة، واصطفّ إلى جانبه الجمهور الشیعیّ العامّ.
ومن هنا، فإنّ الاتّجاه الأخباریّ شکَّل باعثاً قویّاً فی الکشف عن الجوانب العقلیّة والعقلانیّة فی أصول الفقه، وفی تأصیلها وتقعیدها، والتوسّع فیها بالطریقة التی جعلت المنحى العقلیّ والعقلانیّ یصبح من أبرز ملامح الفکر العلمیّ الأصولیّ عند الإمامیّة.
وتمکّن الفکر الإسلامیّ الشیعیّ، فی هذا الاختبار، من التغلّب على النزعة الأخباریّة التی ظهرت فی داخله، ومن الانتصار النهائیّ علیها، وتحویل وضعیّتها من التأثیر فی المرکز إلى التأثیر فی الهامش. وهذا هو حالها الیوم فی البیئات والمجتمعات التی ظهرت فیها.
وبخلاف هذا الوضع تماماً، ما حصل فی المجال الإسلامیّ السنّیّ، الذی تغلّبت وتقدّمت فی ساحته النزعة السلفیّة، وحافظت على قوّة تأثیراتها فی ساحة المرکز، ولیس فی ساحة الهامش. ولشدّة وضوح هذه الحالة فهی لا تحتاج إلى البرهنة علیها. ویکفی فیها الإشارة إلى التسابق الحاصل فی نشر کتب الأشعریّ وکتب ابن تیمیّة وتلمیذه ابن القیّم[19].
وتصلح هذه المفارقة ما بین تغلّب الفکر الشیعیّ على النزعة الأخباریّة، وتغلّب النزعة السلفیّة فی الفکر السنّیّ، لتفسیر ما حدث ویحدث فی المجتمعات العربیّة والإسلامیّة من توتّرات ونزاعات وسجالات مذهبیّة.
خاتمة:
إنّ هذه الاختبارات الفکریّة والتاریخیّة الممتدّة ما بین القرن الهجریّ الثانی إلى القرن الثالث عشر، والانتصار فیها، یکشفان -من جهة- عن تطوّر الحرکة العقلیّة فی الفکر الشیعیّ، ویکشفان -من جهةٍ أخرى- عن بقاء هذه الحرکة ودیمومتها، حیث ألهمت الفکر الشیعیّ دینامیّات التطوّر والتجدید الاجتهادیّ.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، ورئیس تحریر مجلة الکلمة، من السعودیّة.
[2] انظر: مدکور، إبراهیم: فی الفلسفة الإسلامیّة.. منهج وتطبیق، القاهرة، سمیرکو للطباعة، لا ت.، ج2، ص36.
[3] انظر: النشار، علی سامی: نشأة الفکر الفلسفیّ فی الإسلام، ط9، القاهرة، دار المعارف، ج1، ص8.
[4] محمود، عبد الحلیم: الإسلام والعقل، القاهرة، دار المعارف، 2008م، ص40.
[5] الجوزو، محمد علی: مفهوم العقل والقلب فی القرآن والسنّة، بیروت، دار العلم للملایین، 1980م، ص139.
[7] انظر: الجوزو: مفهوم العقل والقلب فی القرآن والسنّة، م.س، ص138.
[8] أحمد، محمد شریف: تجدید الموقف الإسلامیّ فی الفقه والفکر والسیاسة، دمشق، دار الفکر، 2004م، ص191.
[9] مدکور، فی الفلسفة الإسلامیة منهج وتطبیق، م.س، ج2، ص45.
[10] انظر: أمین، أحمد: ضحى الإسلام، ط10، بیروت، دار الکتاب العربیّ، لا ت، ج3، ص70.
[11] هذه الفکرة طرحتها سنة 2000م فی دراسة نشرتها بعنوان: "الفکر الإسلامیّ المعاصر بین الحداثة والاجتهاد"، ویمکن العودة إلیها فی کتابین نشرتهما؛ الأوّل: کتاب "من التراث إلى الاجتهاد.. الفکر الإسلامیّ وقضایا الإصلاح والتجدید" الصادر سنة 2004م، وکتاب "الإسلام والحداثة.. من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامیّة" الصادر سنة 2010م.
[12] انظر: العشماوی، محمد سعید: العقل فی الإسلام، بیروت، مؤسّسة الانتشار العربیّ، 2004م، ص72.
[13] انظر: قاسم، محمود: الإسلام بین أمس وغده، القاهرة، الهیئة المصریّة العامّة للکتاب، 2009م، ص55.
[14] انظر: الجابری، محمد عابد: تکوین العقل العربیّ، الدار البیضاء، المرکز الثقافیّ العربیّ، 2000م، ص336-339.
[15] انظر: کوربان، هنری: تاریخ الفلسفة الإسلامیّة، ترجمة: نصیر مروة؛ حسن قبیسی، بیروت، عویدات للنشر، 2004م، ص291.
[18] فخری، ماجد: تاریخ الفلسفة الإسلامیّة، ترجمة: کمال الیازجیّ، بیروت، دار المشرق، 2000م، ص476.
[19] انظر: عبد الرازق، مصطفى: تمهید لتاریخ الفلسفة الإسلامیّة، القاهرة، مکتبة الثقافة الدینیّة، لا ت، ص295.