من فقه الأقلّیّات إلى فقه التعارف
أ. الدکتور جمیل حمداوی[1]
خلاصة:
یمکن الحدیث عن مرحلتین رئیستین من مراحل الحاجة إلى فقه الأقلّیّات؛ هما: مرحلة الضیاع والاستلاب، ومرحلة الصحوة الإسلامیّة.
وهناک مجموعة من المواقف العلمیّة تجاه فقه الأقلّیّات؛ سواء أکانت مواقف إیجابیّة أم سلبیّة أم محایدة أم معتدلة. ومن بین هذه المواقف: موقف یدافع عن فقه الأقلّیّات، وموقف یقبل بالمضمون والمبدإ، ویرفض المصطلح، ویستبدله بفقه التعایش، وموقف یرفض هذا الفقه جملة وتفصیلاً.
ومن هذا المنطلق، لا بدّ من معالجة مجموعة من الأسئلة التی یستوجبها البحث فی هذا الصدد؛ وهی: ما هو فقه المهجر أو فقه الأقلّیّات؟ وما هی مقوّماته النظریّة والتطبیقیّة؟ وما هی أهدافه العامّة والخاصّة؟ وما هی مصادره؟ وما هی المشاکل التی یطرحها هذا الفقه؟ وکیف یمکن تأصیل هذا الفقه وتأسیسه؟
لیتبیّن لنا أنّ فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف أو فقه المهجر هو ذلک الفقه الذی یدرس مختلف المشاکل التی تعترض الأقلّیّات فی بلدان المهجر، مع تقدیم الحلول الناجعة لهذه المشاکل فی ضوء فقه إسلامیّ معاصر، یتبنّى الاجتهاد الذی یراعی مصالح الأقلّیّات، ویدرأ عنها المفاسد من خلال تطبیق طریقة فقهیّة مرنة ومیسّرة؛ منهجاً وسبیلاً ومسلکاً، مع تمثّل آلیّات الفقه المقاصدیّ؛ تشریعاً وإفتاءً وحکماً، على أن یکون هذا الفقه فقهاً کلّیّاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً أو جزئیّاً. ومن ثمّ، فهذا الفقه یجیب عن مجموعة من الأسئلة أو القضایا التی تؤرّق المهاجرین؛ سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم ثقافیّة أم دینیّة أم حضاریّة... ولا بدّ لهذا الفقه من أن یتجاوز الدلالة السیاسیّة لمصطلح الأقلّیّات، لینفتح على مصطلح التعارف الذی یوحی بطبیعة العلاقات الإنسانیّة الإیجابیّة التی تجمع بین المسلم وجاره غیر المسلم.
مصطلحات مفتاحیّة:
فقه الأقلّیّات، فقه التعایش، فقه التعارف، فقه المهجر، دار الإسلام، دار الهجرة، الاجتهاد الفقهی، متغیّرات الزمان والمکان، فقه النصّ، فقه الواقع، فقه الموازنات، فقه الأولویّات، فقه الضروریّات، فقه الحاجیّات، الفقه المقارن، الفقه الموروث، مقاصد الشریعة، الأصول، الفروع، الکلّیّات، الجزئیّات، التأصیل، التعارف، التفاهم، التسامحن التعایش، ...
مقدّمة:
من المعروف أنّ ثمّة دارین للمسلمین: دار الإسلام، التی یعیش فیها المسلمون قاطبة، وفیها یطبّقون شرع الله، ولا یجدون لومة لائم فی العمل بشریعة الله، سنّة وقرآناً ومنهاجاً. وفی المقابل، ثمّة دار الحرب أو دار العهد، وتسمّى -أیضاً- بدار الدعوة، أو دار التعارف، أو دار الإنسانیّة، أو دار الهجرة، أو دار الاغتراب، أو المجتمع غیر الإسلامیّ؛ حیث تعیش فیها أقلّیّات من غیر المسلمین، أو یرتادها مسلمون مغتربون ومهاجرون عن دیارهم الأصلیّة؛ بحثاً عن العمل، أو الرزق، أو الحرّیّة، أو العیش الکریم، أو طلباً للدراسة والعلم والشفاء.
بید أنّ للمسلمین الذین یعیشون فی هذه الدیار مشاکل متنوّعة ومختلفة، تتعلّق بقضایا سیاسیّة واجتماعیّة واقتصادیّة وثقافیّة ودینیّة وحضاریّة تزداد حدّة وصعوبة وتعقیداً، وتتطلّب حلولاً إجرائیّة ومستعجلة، خاصّة أنّ هذه الأقلّیّات تعیش بین أقوام متعدّدة، وثنیّة، بوذیّة، یهودیّة، نصرانیّة، وملحدة...
وقد استوجب هذا الواقع الشائک وجود فقه خاصّ بالأقلّیّات؛ یسمّى بفقه المهجر، أو فقه التعارف، أو فقه المغتربین، أو فقه الأقلّیّات، أو فقه المسلمین فی غیر المجتمع الإسلامیّ. ولهذا الفقه أصول ومبادئ نظریّة وتطبیقیّة یجب معرفتها واستیعابها وتمثّلها.
تحاول هذه المقالة الإجابة على مجموعة من الأسئلة، وهی: ما هو فقه المهجر؟ وما هی مقوّماته النظریّة والتطبیقیّة؟ وما هی أهدافه العامّة والخاصّة؟ وما هی مصادره؟ وما هی المشاکل التی یطرحها هذا الفقه؟ وکیف یمکن تأصیل هذا الفقه وتأسیسه؟
أولاً: مصطلح فقه الأقلّیّات:
یُسمّى فقه الأقلّیّات بتسمیات أخرى، مثل: فقه دار الحرب، فقه دار العهد، فقه المهجر أو المهاجر، فقه الأولویّات، فقه المکان، فقه الجغرافیا، فقه المسلمین فی مجتمع غیر المجتمع الإسلامیّ، فقه المغتربین، فقه التعایش[2]، فقه المواطنة[3]، وفقه الأقلّیّات المسلمة[4]...
ویمکن -أیضاً- تسمیته بفقه التعارف؛ لکونه یبیّن علاقة المسلم بالآخر الأجنبیّ على مستوى المعاملات والعبادات والتفاعل الأخلاقیّ، ویتطلّب هذا وجود فقه خاصّ بهذا التعامل الذی یتمّ بین الأنا والآخر. وینبغی أن یکون -بطبیعة الحال- تعاملاً إنسانیّاً إیجابیّاً، قائماً على التفاهم، والتسامح، والتعارف، والتعایش، والصداقة، والمودّة، والمحبّة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {یا أیها الناس إنّا خلقناکم من ذکر وأنثى وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفواإنّ أکرمکم عند الله أتقاکم إنّ الله علیم خبیر}[5] .
وعلى الرغم من الاختلاف البیّن بین المسلمین والکتابیّین فی کثیر من الأصول الدینیّة والشرعیّة الکبرى، وبالضبط فی ما یتعلّق بالعقیدة والتوحید والإیمان، فإنّ ثمّة مجموعة من القواسم المشترکة التی تقرّب المسلمین من غیر المسلمین، ولا سیّما فی مجال المعاملات والمعاهدات والقیم والعلاقات الإنسانیّة...
وتجدر الإشارة إلى أنّ الهجرة جائزة فی الشرع الإسلامیّ، خاصّة إذا کانت هروباً من الظلم والاستبداد والبطش، أو بحثاً عن العلم والرزق، أو خوفاً على الدین من تجبّر الکفّار والوثنیّین. وفی هذا السیاق، یقول الله تعالى: {إنّالذین توفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم قالوا فیم کنتم قالوا کنّا مستضعفین فیالأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها فأولئک مأواهم جهنّموساءت مصیراً إلا المستضعفین من الرجال والنساء والولدان لا یستطیعون حیلةولا یهتدون سبیلاً فأولئک عسى الله أن یعفو عنهم وکان الله غفوراً رحیماً}[6].
ولم یکن مصطلح "فقه الأقلّیّات" معروفاً فی القرون الماضیّة؛ بل ظهر فی قرننا العشرین مع تزاید ظاهرة الهجرة إلى الدول الأجنبیّة، وتفاقم مشاکلها بشکل تدریجیّ؛ ما أثّر سلباً فی وضعیّتهم الدینیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة والثقافیّة والاقتصادیّة... وأکثر من هذا، لم یبرز هذا المصطلح فی الکتابات الإسلامیّة المعاصرة إلا بعد مجموعة من الندوات والمؤتمرات العلمیّة التی ناقشت أوضاع المسلمین فی المهجر أو أرض الاغتراب، وأشرفت علیها رابطة العالم الإسلامیّ، ومنظمة المؤتمر الإسلامیّ، وغیرهما من المؤسّسات العلمیّة والسیاسیّة الحکومیّة وغیر الحکومیّة.
هذا، وإنّ عدد المسلمین فی الخارج فی تزاید؛ حیث أشارت هیئة الأمم المتّحدة إلى أنّ ثمّة أکثر من خمسمئة وخمسین (550) ملیون مسلم، یعیشون فی أرض الغربة. ومن ثمّ، یشکّلون ثلث عدد المسلمین فی العالم، ویعیشون فی ما بین 56 إلى 58 دولة، فی ستّ قارات عالمیّة[7]. لذلک، فهم یمثّلون أقلّیّة بالنسبة للشعوب المستقبلة، وتتطلّب أوضاعهم حلولاً مستعجلة؛ فی ما یتعلّق بحالتهم الدینیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والحضاریّة... وقد استوجبت هذه المشاکل الملحّة کلّها؛ فقهاً عصریّاً جدیداً، یسمّى بفقه الأقلّیّات، أو فقه المهجر، أو فقه التعارف.
ویُعنى فقه الأقلّیّات بدراسة حیاة المسلمین فی المجتمعات الأخرى غیر المسلمة، وإیجاد الحلول الشرعیّة لمشاکلهم ومستجدّاتهم، سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم دینیّة أم حضاریّة، بمراعاة ظروف المکان والزمان. وقد یکون هذا الفقه فقهاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً؛ کفقه الفرائض، وفقه الأموال، وفقه النساء، وفقه الجنایات، وفقه السیاسة، وغیرها من الفقهیّات الفرعیّة والجزئیّة.
وهناک مَن عرّفه بقوله: "أمّا کلمة (الأقلّیّات)، فهی مصطلح سیاسیّ جرى فی العرف الدولیّ، یُقصد به مجموعة أو فئات من رعایا دولة من الدول تنتمی من حیث العِرق أو اللغة أو الدین إلى غیر ما تنتمی إلیه الأغلبیّة. وتشمل مطالب الأقلّیّات -عادة- المساواة مع الأغلبیّة فی الحقوق المدنیّة والسیاسیّة، مع الاعتراف لها بحقّ الاختلاف والتمیّز فی مجال الاعتقاد والقیم"[8].
ثانیاً: بدایات الاهتمام بفقه الأقلّیّات:
یمکن الحدیث عن مرحلتین رئیستین من مراحل الحاجة إلى فقه الأقلّیّات؛ هما: مرحلة الضیاع والاستلاب، ومرحلة الصحوة الإسلامیّة؛ بمعنى أنّ المهاجرین الأوائل، سواء أکانوا الجیل الأوّل أم الجیل الثانی، أحسّوا بالضیاع والاغتراب فی بلاد المهجر، ولم یعرفوا دینهم معرفة حقیقیّة، فقد هاجروا إبان الحربین العالمیّتین الأولى والثانیة، إمّا للحرب إلى جانب الحلفاء مقابل لقمة الخبز، وإمّا لتعمیر أوروبا فی سنوات الخمسین والستّین من القرن الماضی من جرّاء الدمار الذی لحق بها. فلم یتبیّن المسلمون المهاجرون دینهم بشکل جیّد؛ لأنّهم کانوا منشغلین بلقمة الخبز، والشوق والحنین إلى وطنهم وأهلهم وأحبّتهم. ومن ثمّ، لم یعرفوا حقائق الإسلام عن وعی وعلم وتطبیق؛ بل أحسّوا بالضیاع والاغتراب وفوات الأوان، ولاسیّما أنّ أغلب هؤلاء المهاجرین کانوا أمّیّین -وأقصد مهاجری المغرب العربیّ-، بل حتى الشعوب الإسلامیّة الأصلیّة فی تلک الفترة؛ کمسلمی البوسنة والهرسک والطاجیک والقوقاز والشیشان والألبان... کانوا مستلبین دینیّاً، وکانوا -أیضاً- تابعین للمنظومة الاشتراکیّة السوفیاتیّة التی أخضعتهم قهراً وقسراً وجبراً، وکانوا فی الحقیقة مضطهدین عقدیّاً؛ وهم یشکّلون أقلّیّات مسلمة، ینبغی علیها أن تذوب فی المجتمع الاشتراکیّ المادّیّ والمُلحِد.
أما فی العقود الأخیرة، فقد تحقّقت صحوة إسلامیّة واعیة، فشرع المسلمون المغتربون یتساءلون عن دینهم، ویبحثون عن طرائق التعارف مع الأجانب، ویتساءلون عن کیفیّة الحفاظ على هویّتهم وشخصیّتهم الإسلامیّة، فأسّسوا مساجد ومعاهد ومجالس دینیّة تعلیمیّة وتربویّة، ونظّموا مؤتمرات إسلامیّة للتباحث فی قضایا دینهم، ومناقشة أمور حیاتهم الدنیویّة والأخرویّة.
وفی هذه المرحلة بالذات، لم یکتفِ المسلمون المغتربون ببناء المساجد والکتاتیب القرآنیّة فحسب؛ بل أسّسوا مدارس ومعاهد وکلّیّات وجامعات إسلامیّة لتخریج العلماء والدعاة المتنوّرین[9].
وقد انعقد فی القرن العشرین وسنوات الألفیّة الثالثة کثیر من الندوات والمؤتمرات فی الشرق الأقصى وأوروبا وأمریکا؛ بغیة النظر فی مشکلات الأقلّیّات المسلمة، واقتراح الحلول الفقهیّة الناجعة لمعالجتها بطریقة من الطرائق الممکنة. ومن بین ذلک: ندوتان نظّمهما اتّحاد المنظّمات الإسلامیّة فی فرنسا لتناول فقه الأقلّیّات المسلمة فی فرنسا خصوصاً، وأوروبا عموماً، واستدعی لهما کثیر من الفقهاء المتخصّصین فی هذا المجال، مثل: الدکتور مصطفى الزرقا، الشیخ عبد الفتاح أبو غدة، سید الدرش، الشیخ منّاع القطان، الشیخ عبد الله بن بیة، الشیخ محمد العجلان، الدکتور ناصر المیمان، الشیخ فیصل مولوی، الدکتور عصام البشیر، والشیخ یوسف القرضاوی... لمناقشة قضیّة "الإقامة فی بلاد الغرب... والحصول على جنسیّة هذا البلد... والزواج من أوربیّة غیر مسلمة للحصول على الإقامة... والزواج بامرأة عرفاً على خلاف القانون، وتطلیق المرأة قانوناً، وهو متزوّج بها فعلاً؛ للحصول على معونة المطلقة... وأخذ الرجل معونة البطالة من الدولة، مع أنّه یعمل ولکن لا یبلّغ عن عمله... إلخ هذه الأشیاء"[10].
وترتّب على هاتین الندوتین تأسیس مجلس أوروبیّ للإفتاء والبحوث، ینظر فی مشاکل الأقلّیّات فی ضوء الشریعة الإسلامیّة؛ انطلاقا من رؤیة معاصرة، تراعی متغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما. وقد عقد أکثر من سبع دورات للنظر فی مشاکل الأقلّیّات المسلمة، وتوصّل المجلس إلى مجموعة من القرارات العلمیّة الفردیّة والجماعیّة، ولکنّ هذه الاجتهادات لم تجمع فی کتاب معیّن ولم توثّق؛ لکی یطّلع علیها الفقهاء والجالیات المسلمة.
ونُظِّم مؤتمر آخر لعلماء الشریعة بأمریکا سنة 1999م لطرح قضایا فقه الأقلّیّات. کما اهتمّت رابطة العالم الإسلامیّ اهتماماً ملحوظاً بفقه الأقلّیّات، فکلّفت الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی وغیره من الباحثین بإنجاز بحوث فی هذا المجال.
ویمکن القول: إنّ المجلس الفقهیّ الأوروبیّ للبحوث قد عمّق کثیراً مبادئ فقه الأقلّیّات؛ نظریّة وتطبیقاً، وکان من أنشطته الثقافیّة والفکریّة والدینیّة البارزة أنْ نظّم الدورة السادسة عشرة فی ترکیا یولیو 2006م، حیث قدّم المجلس ثمانیة وعشرین بحثاً فی الفقه السیاسیّ للأقلّیّات المسلمة. کما قدَّم أکثر من خمسین بحثاً فی مشاکل الأسرة عبر ثلاث دورات سابقة، ضمن ما یسمّى بفقه الأسرة المسلمة فی الغرب. وما یزال الاهتمام بقضایا فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر جاریاً ومستمرّاً بشکل دؤوب هنا وهناک.
وثمّة مجموعة من الکتب التی کتبها مجموعة من الباحثین فی مجال فقه الأقلّیّات؛ منها: ما کتبه الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی "غیر المسلمین فی المجتمع الإسلامیّ"، و"فقه الأقلّیّات المسلمة"، وکتاب الدکتور طه جابر العلوانیّ "مدخل إلى أصول وفقه الأقلّیّات"، وکتاب الدکتور خالد محمد عبد القادر "من فقه الأقلّیّات المسلمة"، وکتاب الشیخ عبد الله بن بیة "ضوابط الفتوى وفقه الأقلّیّات"، وکتاب الدکتور عبد المجید النجّار "فقه المواطنة للمسلمین فی أوروبا"، والکتاب الذی أعدّه علی بن نایف الشحود بعنوان "الخلاصة فی فقه الأقلّیّات"...
وهناک مؤلّفات وکتب أخرى فی هذا المجال -أیضاً-؛ مثل: "الأحکام السیاسیّة للأقلّیّات المسلمة فی الفقه الإسلامیّ" لسلیمان محمد توبولیاک (1995م)، وکتاب "الأحکام الشرعیّة الناظمة للعادات الاجتماعیّة للأقلّیّات المسلمة فی أمریکا" لعمّار منذر محمد قحف (2001م)، وکتاب "التنظیم القضائیّ للأقلّیّات المسلمة" لمهنّد فؤاد استیتی (2006م)، وکتاب "فقه الأقلّیّات المسلمة فی مسائل الأحوال الشخصیّة" لأمل یوسف القواسمی (2006م)، وکتاب "دراسة مقارنة للأوضاع التعلیمیّة للأقلّیّات المسلمة فی الهند وسریلانکا یوغسلافیا ومدى جهود العالم الإسلامیّ لمواجهة هذه الأوضاع" لعلی سالم إبراهیم النباهین (1985م)...
ثالثاً: موقف علماء الإسلام من فقه الأقلّیّات:
هناک مجموعة من المواقف العلمیّة تجاه فقه الأقلّیّات؛ سواء أکانت مواقف إیجابیّة أم سلبیّة أم محایدة أم معتدلة. ومن بین هذه المواقف:
1. موقف یدافع عن فقه الأقلّیّات؛ مثل: موقف الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی ومن تبعه من العلماء المسلمین؛ کطه جابر العلوانی، وغیرهما، إذ یدعو هؤلاء إلى تأصیل هذا الفقه وتثبیته وتقنینه وتأسیسه؛ نظریّة وتطبیقاً.
2. موقف بعض العلماء الذین یقبلون بالمضمون والمبدإ، ولکنّهم یرفضون المصطلح، ویستبدلونه بفقه التعایش، مثل: الشیخ عبد الله بیة، أو فقه التعارف، کما أسمیناه.
3. موقف یرفض هذا الفقه جملة وتفصیلاً، کالشیخ محمد سعید رمضان البوطی، کما یبدو ذلک جلیّاً فی محاضرته التی ألقاها فی مجلس برلمان الاتّحاد الأوروبیّ فی ستراسبورغ فی "حقوق الأقلّیّات فی الإسلام" سنة 1991م. وفی هذا الصدد، یقول البوطی فی محاضرته المعنونة بـ "لیس صدفة: تلاقی الدعوة إلى فقه الأقلّیّات مع الخطّة الرامیة إلى تجزئة الإسلام": "فی الوقت الذی یخطّط أئمّة الغزو الفکریّ فی العالم، لتجزیء العالم الإسلامیّ الواحد إلى "إسلامیّات" إقلیمیّة متعدّدة، ومن ثمّ مختلفة، فمتصارعة، تتعاظم وتتلاحق الأصوات الداعیة إلى إیجاد ما یسمّونه بـ "فقه الأقلّیّات"، وتفصیله کسوةً إسلامیّة مناسبة للإسلام الذی یتنامى الیوم فی الغرب -بشطریه الأوروبیّ والأمریکیّ- دون الإسلام الآخر المنتشر فی الأوطان الإسلامیّة عامّة. ولقد قلت سائلاً: ما هی المستندات أو الأسس التی ینبغی أن یستولد منها "فقه الأقلّیّات" هذا؟ فقیل لی: إنّها کثیرة: قاعدة المصالح.. الضرورات تبیح المحظورات.. المشقّة تجلب التیسیر.. ما جعل علیکم من الدین من حرج. قلت: ولکنّ هذه المستندات لیست خاصّة للمسلمین المقیمین فی أوروبا وأمریکا.. إنّها مستندات لفقه إسلامیّ عالمیّ لا وطن لـه، ولم تکن یوماً ما مستندات لما تسمّونه "فقه الأقلّیّات" دون غیره، فحیثما وجدت الضرورة بمعناها الشرعیّ المعروف ارتفع الحظر المسبّب لها، وأینما وجدت المشقّة التی تتجاوز الحدّ المعتاد، تثبت الرخصة الشرعیّة المتکفّلة برفعها، وحیثما تعارضت المصلحتان فی سلّم المقاصد الشرعیّة، قدّمت الأَوْلَى منهما.. ولم نجد فی قرآن أو سنّة، ولا فی کلام أحد من أئمّة الشریعة الإسلامیّة، أنّ هذه المستندات خاصّة بحال الأقلّیّات التی تقیم فی دیار الکفر، فلا یجوز لغیرهم من المسلمین فی العالم الإسلامیّ الأخذ بها والاستناد إلیها. قیل لی: إنّ الضرورات التی تنبثق منها الحاجة الماسّة إلى فقه خاصّ بتلک الأقلّیّات، نابعة من وجودهم فی مجتمعات غیر إسلامیّة، لها خصوصیّتها المتمیّزة عن المجتمعات الإسلامیّة! قلت: أیّ إسلام هذا الذی یقرّر أنّ مجرّد وجود المسلم فی دار الکفر یُعدّ ضرورة تبرّر تشریع فقه إسلامیّ خاصٍ به، ینسجم مع ما یحیط به من تیارات الکفر والفسوق والعصیان؟! إذاً، فلماذا شرّع الله الهجرة وأمر بها، من دار الکفر (إن لم یتح للمسلم تطبیق أحکام الإسلام فیها) إلى دار الإسلام، وهلا أقام رسول الله وصحبه بین ظهرانی المشرکین فی مکّة، مستندین فی ذلک إلى هذا الذی لم یکن یعرفه ممّا تسمّونه "فقه الأقلیات"؟ وإذا کان مجرّد وجود المسلمین فی دار الکفر مصدراً لضرورة تبرِّرُ ابتداع فقه جدید یناسب حال تلک الدار ومَنْ فیها، فمن هم الذی عناهم الله تعالى بقوله: {إنّ الذین توفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم قالوا فیم کنتم قالوا کنّا مستضعفین فی الأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها فأولئک مأواهم جهنّم وساءت مصیراً} (النساء: 4). لقد کنّا نستبشر بأنّ تزاید المسلمین فی الغرب مع التزامهم بالإسلام وانضباطهم بأحکامه، یبعث على ذوبان الحضارة الغربیّة الجانحة فی تیار الحضارة الإسلامیّة. ولکنّا الیوم، وفی ظلّ الدعوة الملحّة إلى ما یسمّى بـ "فقه الأقلّیّات" نعلم أننا مهدّدون بنقیض ما کنّا نستبشر به، إنّنا مهدّدون بذوبان الوجود الإسلامیّ فی تیار الحضارة الغربیّة الجانحة، بضمانة من هذا الفقه. ألا فلیتّق الله أئمّة هذه الدعوة التی لا عهد لنا بها قبل الیوم، ولیعلموا أنّ ثمرتها تحقیق ما یراد بالإسلام الیوم، من تحویله إلى إسلامات إقلیمیّة متنوّعة، وإنّ لنا فی المجامع الفقهیّة الکثیرة فی عالمنا العربیّ والإسلامیّ ما یغنی عن ابتداع مرجعیّات خاصّة، متخصّصة بهذا الفقه الإسلامیّ الجدید الذی لا عهد للشریعة الإسلامیّة به[11].
وهذا یعنی أنّ الشیخ محمد سعید رمضان البوطی یدعو إلى فقه عالمیّ وکونیّ بامتیاز، یکون مرجعاً لکافّة العالمین، وفی الوقت نفسه، یعترف هذا الفقه العامّ بالضرورات التی تستلزمها الأقلّیّات فی الدول الغربیّة أو دار الغربة أو المهجر. لذا، فلا داعی إلى فقه الأقلّیّات إطلاقاً، ما دامت هناک مرونة الإسلام ویسره وسماحته ورخصه الکثیرة وضروراته المتنوّعة. أمّا ابتداع فقه الأقلّیّات بهذا الاسم، فالغرض منه هو تجزیء الدین الإسلامیّ إلى فقهیّات وإسلامیّات متعدّدة.
لکنّ "الحقیقة أنّ تخوّف فضیلة الدکتور محمد سعید رمضان البوطی مبالغ فیه، وإلا فإنّ الأقلّیّات المسلمة فی حاجة إلى بیان کثیر من الأحکام الشرعیّة المتعلّقة بمعاملاتها وعباداتها، ولا یعنی ذلک مطلقاً الدعوة إلى تجزئة الإسلام أو التفریق بین فقهه واجتهاده الموحّد أصلاً بوحدة أصوله وتشریعاته. والله أعلم."[12]
رابعاً: مقوّمات فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر:
ینبنی فقه المهجر على مجموعة من المرتکزات أبرزها الآتی:
- تعلّقه بأقلّیّة مسلمة فی غیر المجتمع الإسلامیّ.
- مواکبته لما تواجهه الأقلّیّة المسلمة من مشاکل مختلفة فی بلاد المهجر؛ اجتماعیّة وسیاسیّة ودینیّة واقتصادیّة وثقافیّة ودینیّة وحضاریّة.
- مراعاته لمتغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- مراعاته لفقه الجماعة؛ فضلاً عن فقه الفرد.
- استقلاله بمکوّناته النظریّة والتطبیقیّة على غرار الفقه السیاسیّ، والفقه الاقتصادیّ، والفقه الاجتماعیّ...
- استفادته من خصائص التشریع؛ بلحاظ مرونته، ووسطیّته، واعتداله، ویسره، ومواکبته للواقع...
- اتّسامه بخاصّیّة التعارف والتفاهم والتسامح والانفتاح على الآخر...
خامساً: أهداف فقه الأقلّیّات:
ثمّة مجموعة من الأهداف التی یرمی فقه المهجر أو فقه التعارف أو فقه الأقلّیّات إلى تحقیقها؛ أبرزها الآتی:
- تأسیس علم جدید وتأصیله فی ضوء الفقه المعاصر؛ یسمّى بفقه التعارف.
- النظر فی مشاکل المسلمین فی بلاد المهجر فی ضوء فقه معاصر مرن مواکب للواقع ومتغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- إیجاد الحلول لجمیع المشاکل التی تعانی منها الأقلّیّات المسلمة فی بلاد المهجر على المستویات السیاسیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والدینیّة والحضاریّة.
- الحفاظ على هویة المهاجرین وجوهر شخصیّتهم الإسلامیّة بالنظر إلى أحوالهم ومشاکلهم ومستلزماتهم.
- نشر الإسلام بین صفوف غیر المسلمین؛ بتثبیته فی أوساط الأقلّیّات عن طریق الاقتداء والاسترشاد والتمثّل.
- مساعدة الأقلّیّات على الوعی بشریعتها السمحة، والانفتاح على الآخرین انفتاحاً إیجابیّاً، والتفاعل معهم على أساس التعارف والتسامح والتفاهم والتعایش والصداقة.
- تثقیف الأقلّیّات فی أمورها الدینیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة والثقافیّة؛ لکی لا تکون عرضة الاستلاب والذوبان والاستغلال والضغط القسریّ.
سادساً: خصائص فقه الأقلّیّات:
یتمیّز فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر أو فقه التعارف بمجموعة من الخصائص والممیّزات؛ نجملها فی الآتی:
- سهولته ومرونته ویسره.
- انطلاقه من أصول فقه النصّ، مع مراعاة المتغیّرات المکانیّة والزمانیّة للواقع.
- توفیقه بین الاجتهادات الفقهیّة التراثیّة والاجتهادات الشرعیّة المعاصرة.
- نظرته إلى قضایا المهاجرین المغتربین من خلال منطق التعارف، فی ضوء رؤیة إسلامیّة عالمیّة منفتحة، تراعی خصائص الشعوب الأخرى.
- انطلاقه من الفقه المقاصدیّ الذی یراعی مصالح الإنسان وضروراته وحاجیّاته.
- إرجاعه الفروع إلى الأصول، وربطه الجزئیّات بالکلّیّات، وبحثه عن المصالح مع درئه للمفاسد.
- حفاظه على الشخصیّة المسلمة فی کلّ جوانبها الذهنیّة والعقلیّة والوجدانیّة والدینیّة والحضاریّة والثقافیّة، مع الانفتاح على الآخر انفتاحاً إیجابیّاً، یقوم على التعارف والتفاهم والتسامح والتعایش.
- صیرورته مرجعاً یجمع الاجتهادات الفقهیّة التی تخصّ الأقلّیّات المسلمة فی مختلف النواحی الدنیویّة والأخرویّة.
- أصالته بمکوّناته، واستقلاله بفروعه الجزئیّة، وتفرّده بمنهجه الأصولیّ الاستنباطیّ.
سابعاً: المشاکل التی یعالجها فقه الأقلّیّات:
یعانی المسلمون المغتربون فی أرض المهجر مشاکل عدّة تتعلّق باغترابهم عن أرض الإسلام، وعدم القدرة على الاندماج فی المجتمع الغربیّ، والتخوّف من ضیاع هویّتهم وشخصیّتهم الإسلامیّة، وعدم تملّکهم العلم وتقنیات التکنولوجیا، وعزلتهم عن المجتمع، وإحساسهم بکونهم أقلّیّات متفرّقة، وصعوبة التوصّل إلى تحصیل تمثیلیّة قویّة فی المجتمع الغربیّ، ووجود مفارقة صارخة بین عقیدتهم وسلوکهم العملیّ، وضعف إنتاجهم وترجماتهم، وضعف تسویق أخلاقهم الإسلامیّة...
ومن ثمّ، فهناک أنواع من المشاکل التی تحتاج إلى توضیح وإفتاء وحلول فقهیّة ناجعة نوجزها فی الآتی:
1. مشاکل سیاسیّة، ومنها: الانتخاب فی بلاد المهجر، التصویت على الأحزاب السیاسیّة من غیر المسلمین، مساندة الأحزاب السیاسیّة الأجنبیّة، تأسیس حزب إسلامیّ فی أرض الغربة،حکم هجرة المسلم إلى بلد آخر یتوافر فیه العدل بین الناس،حکم الالتزام بأنظمة الدول الکافرة للمسلم المقیم فیها، حکم الهجرة إلى بلاد الکفّار مخافة الضرر،حکماتّباع القوانین فی بلاد الکفر، اللجوء السیاسیّ إلى البلاد غیر الإسلامیّة،والمشارکة فی جیوش المشرکین...
2. مشاکل اجتماعیّة، ومنها: الإقامة فی بلاد الکفر، العمل فی متاجر تبیع الخمور والخنازیر، التزوّج بکتابیّة أو وثنیّة، الزواج الأبیض[13]، حکم التجنّس بالجنسیّة الأوروبیّة للمسلم، دفن المسلمین فی مقبرة غیر المسلمین، زواج مسلمة من شیوعیّ، زواج المسلم بغیر المسلمة، إسلام المرأة دون زوجها، میراث المسلم من غیر المسلم، تهنئة أهل الکتاب بأعیادهم، التعامل مع الجار غیر المسلم،الضوابط الشرعیّة للعمل فی المهجر، حکم لبس الملابس الغربیّة، حکم حلق اللحى وتهذیبها، انحرافات بعض المسلمین فی بلاد الغرب، الاحتکام إلى محاکم غیر المسلمین،وحکم سفر المرأة إلى بلاد الغرب والبقاء بدون محرم...
3. مشاکل اقتصادیّة، منها: شراء البیوت فی الغرب عن طریق البنوک، بناء المراکز الإسلامیّة من أموال الزکاة، التصدّق على فقراء المهجر، الاستثمار فی بلاد المهجر،حکم المساهمة المالیّة فی أعیاد المیلاد، حکم جمع المسلم التبرّعات للکنیسة، وحکم إعطاء الکفّار من الزکاة والصدقات...
4. مشاکل دینیّة، منها:الجمع بین الصلوات فی بلاد المهجر، صلاة الجمعة قبل الزوال وبعد العصر، الجمع بین صلاتی المغرب والعشاء فی الصیف والشتاء، مشکلة رؤیة الهلال،تعلیق الصلبان والتماثیل فی المسجد،قصر الصلاة للمقیم فی بلاد الکفر،قضاء الدین من الربا، حکممن مکث مدّة طویلة خارج بلده بالنسبة إلى قصر الصلاة، حکم صلاة الجمعة فی بلد نصرانی لا تقام فیه الصلاة، حکم دخول الکنائس لأجل الدعوة أو لأجل الفرجة،وحکمخطبة الجمعة بغیر العربیة...
5. مشاکل متعلّقة بالأطعمة والأشربة، منها:ترک الأضحیة لوجود أوبئة البقر والغنم، حکم الخلّ المصنوع من الخمر، حکم الإنزیمات التی أصلها خنزیر، أکل اللحوم غیر الحلال، ومنع الذبح فی بلاد المهجر...
6. مشاکل تربویّة وتعلیمیّة، منها: وضعیّة التعلیم فی مدارس المهجر، تدریس مقرّرات بلدان المهجر،الدراسة فی بلاد الغرب، ونزع الحجاب فی المؤسّسات التعلیمیّة والجامعیّة...
7. مشاکل ثقافیّة: الاندماج فی ثقافة بلاد المهجر، الترویج لثقافة المهجر، وإقامة التمثیلیّات فی مساجد المراکز الإسلامیّة...
8. مشاکل حضاریّة؛ منها: التعامل مع حضارة الآخر، التقریب بین الدین الإسلامیّ والدین النصرانیّ، حوار الحضارات، علاقة المسلم بالآخر الکتابیّ أو الوثنیّ أو المشرک، المثاقفة والاحتکاک الحضاریّ، الجلوس بین ظهرانیّ المشرکین، التعامل مع الکفّار، التعامل مع الفرق الأخرى،وعیادة المریض الکافر أو تهنئته...
وثمّة مشاکل عدیدة یطرحها فقه الأقلّیّات بشکل من الأشکال، ومن الصعب حصرها بطریقة مسحیّة فی هذا الحیّز الضیّق من هذه الدراسة النظریّة العامّة.
ثامناً: تأصیل فقه التعارف:
إذا أردنا تأصیل فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف، فلا بدّ من وضع أسس منهجیّة معیّنة فی ذلک، نظریّاً وتطبیقیّاً على النحو الآتی:
- الاجتهاد وفق رؤیة إسلامیّة معاصرة تراعی متغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- الانطلاق من القرآن الکریم والسنّة النبویّة الشریفة.
- تمثّل فقه المقاصد بآلیّاته الشرعیّة التی تتعلّق بمصالح الناس وضروراتهم وحاجیّاتهم، والموازنة بین المصالح ودرء المفاسد.
- مراعاة فقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولویّات، والضروریّات والحاجیّات البشریّة.
- تطبیق الفقه المقارن، والأخذ بمبدإ الترجیح من خلال استقراء الأدلّة الشرعیّة، والمقارنة بین الآراء الفقهیّة الراجحة.
- ضرورة الاجتهاد، وتجاوز الفقه الموروث.
- تبنّی منهج التیسیر ما وجد إلیه سبیلاً، ونفی العسر والحرج والمشقّة والتکلیف بما لا یطاق؛ استناداً إلى کلّیات القواعد الفقهیّة المقتنصة من القرآن الکریم والسنّة الشریفة.
وعلى العموم، لا بدّ من وجود فقه خاصّ یجیب عن المشاکل والأسئلة المختلفة التی تطرحها الأقلّیّات فی ضوء رؤیة إسلامیّة معاصرة قائمة على التعارف والتسامح والتعایش، والأخذ بمنطق الضرورة والتخفیف والتیسیر، والابتعاد عن الضیق والتعسیر والحرج. وفی هذا الصدد، یقول طه جابر العلوانی فی مقالة له بعنوان "نظرات تأسیسیّة فی فقه الأقلّیّات": "وربّما حاول بعضهم الإجابة عن هذا النمط من الأسئلة بمنطق "الضرورات" و"النوازل"، ناسین أنّه منطق هشّ لا یتّسع لأمور ذات بال. وربّما واجه المسلم فوضى فی الإفتاء: فهذا الفقیه یُحِلُّ، وذاک یُحَرِّم، وثالث یستند إلى أنّه یجوز فی "دار الحرب" ما لا یجوز فی "دار الإسلام"، ورابع یقیس الواقع الحاضر على الماضی الغابر قیاساً لا یأبه بالفوارق النوعیّة الهائلة بین مجتمع وآخر، وبین حقبة تاریخیّة وأخرى؛ بل لا یأبه بالقواعد الأصولیّة القاضیة بمنع قیاس فرع على فرع… فتکون النتیجة المنطقیّة لهذا المنطلق المنهجیّ الخاطئ إیقاع المسلمین فی البلبلة والاضطراب، وتحجیم دورهم المرتقَب، والحُکم علیهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحیاة الإسلامیّة، وفرض التخلّف علیها، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنیر فی زماننا هذا. والحق أنّ مشکلات الأقلّیّات المسلمة لا یمکن أن تواجَه إلا باجتهاد جدید، ینطلق من کلّیَّات القرآن الکریم وغایاته وقیمه العلیا ومقاصد شریعته ومنهاجه القویم، ویستنیر بما صحّ من سنّة وسیرة الرسول (ص) فی تطبیقاته للقرآن وقِیمه وکلّیَّاته.
وبناءً علیه، فلا بدّ من فقه معاصر جدید، یستفید من الفقه القدیم، ومن ثمّ، لا یشدّد علیها عسراً وضیقاً وحرجاً. کما ینبغی أن یستفید هذا الفقه من الاجتهادات المعاصرة فی مختلف مقارباتها، رغبة فی تأسیس فقه یواکب مستجدّات واقع الأقلّیّات فی بلدان المهجر.
ومن جهة أخرى، نتفهّم جیّداً موقف الفقهاء الذین یتخوّفون من الأخذ بفقه الضرورة والتوسّع من رخص التسامح؛ لما یترتّب على ذلک من مخاطر ومزالق فقهیّة جمّة، قد تحوّل الفقه الإسلامیّ إلى فقه الجواز والمرونة والضرورة والإباحة. وفی الوقت نفسه، نثبت أنّ هذا الفقه لا بدّ من أن یستعین بمجموعة من الضوابط والمقاصد والشروط التی لا تترکه عرضة للمرونة الممیعة والسائبة؛ بل لا بدّ من قیود ملزمة تربط هذا الفقه الجدید بأصول الفقه العامّ ومقاصده الشرعیّة الکبرى.
خاتمة:
یتبیّن ممّا تقدّم أنّ فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف أو فقه المهجر هو ذلک الفقه الذی یدرس مختلف المشاکل التی تعترض الأقلّیّات فی بلدان المهجر، مع تقدیم الحلول الناجعة لهذه المشاکل فی ضوء فقه إسلامیّ معاصر، یتبنّى الاجتهاد الذی یراعی مصالح الأقلّیّات، ویدرأ عنها المفاسد من خلال تطبیق طریقة فقهیّة مرنة ومیسّرة؛ منهجاً وسبیلاً ومسلکاً، مع تمثّل آلیّات الفقه المقاصدیّ؛ تشریعاً وإفتاءً وحکماً، على أن یکون هذا الفقه فقهاً کلّیّاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً أو جزئیّاً. ومن ثمّ، فهذا الفقه یجیب عن مجموعة من الأسئلة أو القضایا التی تؤرّق المهاجرین؛ سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم ثقافیّة أم دینیّة أم حضاریّة...
ولا بدّ لهذا الفقه من أن یتجاوز الدلالة السیاسیّة لمصطلح الأقلّیّات، لینفتح على مصطلح التعارف الذی یوحی بطبیعة العلاقات الإنسانیّة الإیجابیّة التی تجمع بین المسلم وجاره غیر المسلم؛ لأنّ الأهمّ هو المعاملة الحسنة، والتصرّف الطیّب اللائق مع الآخر؛ مصداقاً لقوله تعالى: {لَا یَنْهَاکُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقَاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِوَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواإِلَیْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ}[14].
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] عند الدکتور خالد محمد عبد القادر فی کتابه: من فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، قطر-الدوحة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة، 1998م.
[3] عند الدکتور عبد المجید النجار فی کتابه: فقه المواطنة.
[4] عند الشیخ یوسف القرضاوی فی کتابه: فی فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، القاهرة، دار الشروق، 2001م.
[5] سورة الحجرات، الآیة 7.
[6] سورة النساء، الآیات: 97-99.
http://globemuslims.com/ar/news/13001/
[9] وقد ذکر الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی، فی کتابه "فقه الأقلّیّات المسلمة"، مجموعة من المراحل الفرعیّة التی تندرج ضمن مرحلة الصحوة الإسلامیّة الکبرى؛ مثل: مرحلة الشعور بالهویّة، ومرحلة الاستیقاظ، ومرحلة التحرّک، ومرحلة التجمّع، ومرحلة البناء، ومرحلة التوطین، ومرحلة التفاعل. انظر: فی فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، القاهرة، دار الشروق، القاهرة، 2001م، ص23.
[12] حمیش، عبد الحق: قضایا فقهیّة معاصرة، کلّیّة الشریعة والدراسات الإسلامیّة، جامعة الشارقة، الموسم الدراسیّ 2002-2003م، ص277.
[13] الزواج الأبیض: ینتشر هذا الزواج فی المغرب کثیراً، ولا یعدّ زواجا حقیقیّاً أو شرعیّاً فی منظور الإسلام، بل هو زواج مصلحة ومنفعة، والغرض منه هو الحصول على أوراق الإقامة مقابل مبلغ مالیّ. ولا یمکن أن یستفید الراغب بتلک الأوراق إلا بالزواج الشکلیّ؛ حتى تسمح له الدولة الأجنبیّة بالدخول إلى بلدها عبر ذلک الزواج القانونیّ/ المزیّف. وبمجرّد أن یصل الزوج أو الزوجة إلى البلد المضیف، یطلّق الزوج زوجته، أو تطلّق الزوجة زوجها.
[14] سورة الممتحنة، الآیة 8.
من فقه الأقلّیّات إلى فقه التعارف
أ. الدکتور جمیل حمداوی[1]
خلاصة:
یمکن الحدیث عن مرحلتین رئیستین من مراحل الحاجة إلى فقه الأقلّیّات؛ هما: مرحلة الضیاع والاستلاب، ومرحلة الصحوة الإسلامیّة.
وهناک مجموعة من المواقف العلمیّة تجاه فقه الأقلّیّات؛ سواء أکانت مواقف إیجابیّة أم سلبیّة أم محایدة أم معتدلة. ومن بین هذه المواقف: موقف یدافع عن فقه الأقلّیّات، وموقف یقبل بالمضمون والمبدإ، ویرفض المصطلح، ویستبدله بفقه التعایش، وموقف یرفض هذا الفقه جملة وتفصیلاً.
ومن هذا المنطلق، لا بدّ من معالجة مجموعة من الأسئلة التی یستوجبها البحث فی هذا الصدد؛ وهی: ما هو فقه المهجر أو فقه الأقلّیّات؟ وما هی مقوّماته النظریّة والتطبیقیّة؟ وما هی أهدافه العامّة والخاصّة؟ وما هی مصادره؟ وما هی المشاکل التی یطرحها هذا الفقه؟ وکیف یمکن تأصیل هذا الفقه وتأسیسه؟
لیتبیّن لنا أنّ فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف أو فقه المهجر هو ذلک الفقه الذی یدرس مختلف المشاکل التی تعترض الأقلّیّات فی بلدان المهجر، مع تقدیم الحلول الناجعة لهذه المشاکل فی ضوء فقه إسلامیّ معاصر، یتبنّى الاجتهاد الذی یراعی مصالح الأقلّیّات، ویدرأ عنها المفاسد من خلال تطبیق طریقة فقهیّة مرنة ومیسّرة؛ منهجاً وسبیلاً ومسلکاً، مع تمثّل آلیّات الفقه المقاصدیّ؛ تشریعاً وإفتاءً وحکماً، على أن یکون هذا الفقه فقهاً کلّیّاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً أو جزئیّاً. ومن ثمّ، فهذا الفقه یجیب عن مجموعة من الأسئلة أو القضایا التی تؤرّق المهاجرین؛ سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم ثقافیّة أم دینیّة أم حضاریّة... ولا بدّ لهذا الفقه من أن یتجاوز الدلالة السیاسیّة لمصطلح الأقلّیّات، لینفتح على مصطلح التعارف الذی یوحی بطبیعة العلاقات الإنسانیّة الإیجابیّة التی تجمع بین المسلم وجاره غیر المسلم.
مصطلحات مفتاحیّة:
فقه الأقلّیّات، فقه التعایش، فقه التعارف، فقه المهجر، دار الإسلام، دار الهجرة، الاجتهاد الفقهی، متغیّرات الزمان والمکان، فقه النصّ، فقه الواقع، فقه الموازنات، فقه الأولویّات، فقه الضروریّات، فقه الحاجیّات، الفقه المقارن، الفقه الموروث، مقاصد الشریعة، الأصول، الفروع، الکلّیّات، الجزئیّات، التأصیل، التعارف، التفاهم، التسامحن التعایش، ...
مقدّمة:
من المعروف أنّ ثمّة دارین للمسلمین: دار الإسلام، التی یعیش فیها المسلمون قاطبة، وفیها یطبّقون شرع الله، ولا یجدون لومة لائم فی العمل بشریعة الله، سنّة وقرآناً ومنهاجاً. وفی المقابل، ثمّة دار الحرب أو دار العهد، وتسمّى -أیضاً- بدار الدعوة، أو دار التعارف، أو دار الإنسانیّة، أو دار الهجرة، أو دار الاغتراب، أو المجتمع غیر الإسلامیّ؛ حیث تعیش فیها أقلّیّات من غیر المسلمین، أو یرتادها مسلمون مغتربون ومهاجرون عن دیارهم الأصلیّة؛ بحثاً عن العمل، أو الرزق، أو الحرّیّة، أو العیش الکریم، أو طلباً للدراسة والعلم والشفاء.
بید أنّ للمسلمین الذین یعیشون فی هذه الدیار مشاکل متنوّعة ومختلفة، تتعلّق بقضایا سیاسیّة واجتماعیّة واقتصادیّة وثقافیّة ودینیّة وحضاریّة تزداد حدّة وصعوبة وتعقیداً، وتتطلّب حلولاً إجرائیّة ومستعجلة، خاصّة أنّ هذه الأقلّیّات تعیش بین أقوام متعدّدة، وثنیّة، بوذیّة، یهودیّة، نصرانیّة، وملحدة...
وقد استوجب هذا الواقع الشائک وجود فقه خاصّ بالأقلّیّات؛ یسمّى بفقه المهجر، أو فقه التعارف، أو فقه المغتربین، أو فقه الأقلّیّات، أو فقه المسلمین فی غیر المجتمع الإسلامیّ. ولهذا الفقه أصول ومبادئ نظریّة وتطبیقیّة یجب معرفتها واستیعابها وتمثّلها.
تحاول هذه المقالة الإجابة على مجموعة من الأسئلة، وهی: ما هو فقه المهجر؟ وما هی مقوّماته النظریّة والتطبیقیّة؟ وما هی أهدافه العامّة والخاصّة؟ وما هی مصادره؟ وما هی المشاکل التی یطرحها هذا الفقه؟ وکیف یمکن تأصیل هذا الفقه وتأسیسه؟
أولاً: مصطلح فقه الأقلّیّات:
یُسمّى فقه الأقلّیّات بتسمیات أخرى، مثل: فقه دار الحرب، فقه دار العهد، فقه المهجر أو المهاجر، فقه الأولویّات، فقه المکان، فقه الجغرافیا، فقه المسلمین فی مجتمع غیر المجتمع الإسلامیّ، فقه المغتربین، فقه التعایش[2]، فقه المواطنة[3]، وفقه الأقلّیّات المسلمة[4]...
ویمکن -أیضاً- تسمیته بفقه التعارف؛ لکونه یبیّن علاقة المسلم بالآخر الأجنبیّ على مستوى المعاملات والعبادات والتفاعل الأخلاقیّ، ویتطلّب هذا وجود فقه خاصّ بهذا التعامل الذی یتمّ بین الأنا والآخر. وینبغی أن یکون -بطبیعة الحال- تعاملاً إنسانیّاً إیجابیّاً، قائماً على التفاهم، والتسامح، والتعارف، والتعایش، والصداقة، والمودّة، والمحبّة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {یا أیها الناس إنّا خلقناکم من ذکر وأنثى وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفواإنّ أکرمکم عند الله أتقاکم إنّ الله علیم خبیر}[5] .
وعلى الرغم من الاختلاف البیّن بین المسلمین والکتابیّین فی کثیر من الأصول الدینیّة والشرعیّة الکبرى، وبالضبط فی ما یتعلّق بالعقیدة والتوحید والإیمان، فإنّ ثمّة مجموعة من القواسم المشترکة التی تقرّب المسلمین من غیر المسلمین، ولا سیّما فی مجال المعاملات والمعاهدات والقیم والعلاقات الإنسانیّة...
وتجدر الإشارة إلى أنّ الهجرة جائزة فی الشرع الإسلامیّ، خاصّة إذا کانت هروباً من الظلم والاستبداد والبطش، أو بحثاً عن العلم والرزق، أو خوفاً على الدین من تجبّر الکفّار والوثنیّین. وفی هذا السیاق، یقول الله تعالى: {إنّالذین توفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم قالوا فیم کنتم قالوا کنّا مستضعفین فیالأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها فأولئک مأواهم جهنّموساءت مصیراً إلا المستضعفین من الرجال والنساء والولدان لا یستطیعون حیلةولا یهتدون سبیلاً فأولئک عسى الله أن یعفو عنهم وکان الله غفوراً رحیماً}[6].
ولم یکن مصطلح "فقه الأقلّیّات" معروفاً فی القرون الماضیّة؛ بل ظهر فی قرننا العشرین مع تزاید ظاهرة الهجرة إلى الدول الأجنبیّة، وتفاقم مشاکلها بشکل تدریجیّ؛ ما أثّر سلباً فی وضعیّتهم الدینیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة والثقافیّة والاقتصادیّة... وأکثر من هذا، لم یبرز هذا المصطلح فی الکتابات الإسلامیّة المعاصرة إلا بعد مجموعة من الندوات والمؤتمرات العلمیّة التی ناقشت أوضاع المسلمین فی المهجر أو أرض الاغتراب، وأشرفت علیها رابطة العالم الإسلامیّ، ومنظمة المؤتمر الإسلامیّ، وغیرهما من المؤسّسات العلمیّة والسیاسیّة الحکومیّة وغیر الحکومیّة.
هذا، وإنّ عدد المسلمین فی الخارج فی تزاید؛ حیث أشارت هیئة الأمم المتّحدة إلى أنّ ثمّة أکثر من خمسمئة وخمسین (550) ملیون مسلم، یعیشون فی أرض الغربة. ومن ثمّ، یشکّلون ثلث عدد المسلمین فی العالم، ویعیشون فی ما بین 56 إلى 58 دولة، فی ستّ قارات عالمیّة[7]. لذلک، فهم یمثّلون أقلّیّة بالنسبة للشعوب المستقبلة، وتتطلّب أوضاعهم حلولاً مستعجلة؛ فی ما یتعلّق بحالتهم الدینیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والحضاریّة... وقد استوجبت هذه المشاکل الملحّة کلّها؛ فقهاً عصریّاً جدیداً، یسمّى بفقه الأقلّیّات، أو فقه المهجر، أو فقه التعارف.
ویُعنى فقه الأقلّیّات بدراسة حیاة المسلمین فی المجتمعات الأخرى غیر المسلمة، وإیجاد الحلول الشرعیّة لمشاکلهم ومستجدّاتهم، سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم دینیّة أم حضاریّة، بمراعاة ظروف المکان والزمان. وقد یکون هذا الفقه فقهاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً؛ کفقه الفرائض، وفقه الأموال، وفقه النساء، وفقه الجنایات، وفقه السیاسة، وغیرها من الفقهیّات الفرعیّة والجزئیّة.
وهناک مَن عرّفه بقوله: "أمّا کلمة (الأقلّیّات)، فهی مصطلح سیاسیّ جرى فی العرف الدولیّ، یُقصد به مجموعة أو فئات من رعایا دولة من الدول تنتمی من حیث العِرق أو اللغة أو الدین إلى غیر ما تنتمی إلیه الأغلبیّة. وتشمل مطالب الأقلّیّات -عادة- المساواة مع الأغلبیّة فی الحقوق المدنیّة والسیاسیّة، مع الاعتراف لها بحقّ الاختلاف والتمیّز فی مجال الاعتقاد والقیم"[8].
ثانیاً: بدایات الاهتمام بفقه الأقلّیّات:
یمکن الحدیث عن مرحلتین رئیستین من مراحل الحاجة إلى فقه الأقلّیّات؛ هما: مرحلة الضیاع والاستلاب، ومرحلة الصحوة الإسلامیّة؛ بمعنى أنّ المهاجرین الأوائل، سواء أکانوا الجیل الأوّل أم الجیل الثانی، أحسّوا بالضیاع والاغتراب فی بلاد المهجر، ولم یعرفوا دینهم معرفة حقیقیّة، فقد هاجروا إبان الحربین العالمیّتین الأولى والثانیة، إمّا للحرب إلى جانب الحلفاء مقابل لقمة الخبز، وإمّا لتعمیر أوروبا فی سنوات الخمسین والستّین من القرن الماضی من جرّاء الدمار الذی لحق بها. فلم یتبیّن المسلمون المهاجرون دینهم بشکل جیّد؛ لأنّهم کانوا منشغلین بلقمة الخبز، والشوق والحنین إلى وطنهم وأهلهم وأحبّتهم. ومن ثمّ، لم یعرفوا حقائق الإسلام عن وعی وعلم وتطبیق؛ بل أحسّوا بالضیاع والاغتراب وفوات الأوان، ولاسیّما أنّ أغلب هؤلاء المهاجرین کانوا أمّیّین -وأقصد مهاجری المغرب العربیّ-، بل حتى الشعوب الإسلامیّة الأصلیّة فی تلک الفترة؛ کمسلمی البوسنة والهرسک والطاجیک والقوقاز والشیشان والألبان... کانوا مستلبین دینیّاً، وکانوا -أیضاً- تابعین للمنظومة الاشتراکیّة السوفیاتیّة التی أخضعتهم قهراً وقسراً وجبراً، وکانوا فی الحقیقة مضطهدین عقدیّاً؛ وهم یشکّلون أقلّیّات مسلمة، ینبغی علیها أن تذوب فی المجتمع الاشتراکیّ المادّیّ والمُلحِد.
أما فی العقود الأخیرة، فقد تحقّقت صحوة إسلامیّة واعیة، فشرع المسلمون المغتربون یتساءلون عن دینهم، ویبحثون عن طرائق التعارف مع الأجانب، ویتساءلون عن کیفیّة الحفاظ على هویّتهم وشخصیّتهم الإسلامیّة، فأسّسوا مساجد ومعاهد ومجالس دینیّة تعلیمیّة وتربویّة، ونظّموا مؤتمرات إسلامیّة للتباحث فی قضایا دینهم، ومناقشة أمور حیاتهم الدنیویّة والأخرویّة.
وفی هذه المرحلة بالذات، لم یکتفِ المسلمون المغتربون ببناء المساجد والکتاتیب القرآنیّة فحسب؛ بل أسّسوا مدارس ومعاهد وکلّیّات وجامعات إسلامیّة لتخریج العلماء والدعاة المتنوّرین[9].
وقد انعقد فی القرن العشرین وسنوات الألفیّة الثالثة کثیر من الندوات والمؤتمرات فی الشرق الأقصى وأوروبا وأمریکا؛ بغیة النظر فی مشکلات الأقلّیّات المسلمة، واقتراح الحلول الفقهیّة الناجعة لمعالجتها بطریقة من الطرائق الممکنة. ومن بین ذلک: ندوتان نظّمهما اتّحاد المنظّمات الإسلامیّة فی فرنسا لتناول فقه الأقلّیّات المسلمة فی فرنسا خصوصاً، وأوروبا عموماً، واستدعی لهما کثیر من الفقهاء المتخصّصین فی هذا المجال، مثل: الدکتور مصطفى الزرقا، الشیخ عبد الفتاح أبو غدة، سید الدرش، الشیخ منّاع القطان، الشیخ عبد الله بن بیة، الشیخ محمد العجلان، الدکتور ناصر المیمان، الشیخ فیصل مولوی، الدکتور عصام البشیر، والشیخ یوسف القرضاوی... لمناقشة قضیّة "الإقامة فی بلاد الغرب... والحصول على جنسیّة هذا البلد... والزواج من أوربیّة غیر مسلمة للحصول على الإقامة... والزواج بامرأة عرفاً على خلاف القانون، وتطلیق المرأة قانوناً، وهو متزوّج بها فعلاً؛ للحصول على معونة المطلقة... وأخذ الرجل معونة البطالة من الدولة، مع أنّه یعمل ولکن لا یبلّغ عن عمله... إلخ هذه الأشیاء"[10].
وترتّب على هاتین الندوتین تأسیس مجلس أوروبیّ للإفتاء والبحوث، ینظر فی مشاکل الأقلّیّات فی ضوء الشریعة الإسلامیّة؛ انطلاقا من رؤیة معاصرة، تراعی متغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما. وقد عقد أکثر من سبع دورات للنظر فی مشاکل الأقلّیّات المسلمة، وتوصّل المجلس إلى مجموعة من القرارات العلمیّة الفردیّة والجماعیّة، ولکنّ هذه الاجتهادات لم تجمع فی کتاب معیّن ولم توثّق؛ لکی یطّلع علیها الفقهاء والجالیات المسلمة.
ونُظِّم مؤتمر آخر لعلماء الشریعة بأمریکا سنة 1999م لطرح قضایا فقه الأقلّیّات. کما اهتمّت رابطة العالم الإسلامیّ اهتماماً ملحوظاً بفقه الأقلّیّات، فکلّفت الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی وغیره من الباحثین بإنجاز بحوث فی هذا المجال.
ویمکن القول: إنّ المجلس الفقهیّ الأوروبیّ للبحوث قد عمّق کثیراً مبادئ فقه الأقلّیّات؛ نظریّة وتطبیقاً، وکان من أنشطته الثقافیّة والفکریّة والدینیّة البارزة أنْ نظّم الدورة السادسة عشرة فی ترکیا یولیو 2006م، حیث قدّم المجلس ثمانیة وعشرین بحثاً فی الفقه السیاسیّ للأقلّیّات المسلمة. کما قدَّم أکثر من خمسین بحثاً فی مشاکل الأسرة عبر ثلاث دورات سابقة، ضمن ما یسمّى بفقه الأسرة المسلمة فی الغرب. وما یزال الاهتمام بقضایا فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر جاریاً ومستمرّاً بشکل دؤوب هنا وهناک.
وثمّة مجموعة من الکتب التی کتبها مجموعة من الباحثین فی مجال فقه الأقلّیّات؛ منها: ما کتبه الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی "غیر المسلمین فی المجتمع الإسلامیّ"، و"فقه الأقلّیّات المسلمة"، وکتاب الدکتور طه جابر العلوانیّ "مدخل إلى أصول وفقه الأقلّیّات"، وکتاب الدکتور خالد محمد عبد القادر "من فقه الأقلّیّات المسلمة"، وکتاب الشیخ عبد الله بن بیة "ضوابط الفتوى وفقه الأقلّیّات"، وکتاب الدکتور عبد المجید النجّار "فقه المواطنة للمسلمین فی أوروبا"، والکتاب الذی أعدّه علی بن نایف الشحود بعنوان "الخلاصة فی فقه الأقلّیّات"...
وهناک مؤلّفات وکتب أخرى فی هذا المجال -أیضاً-؛ مثل: "الأحکام السیاسیّة للأقلّیّات المسلمة فی الفقه الإسلامیّ" لسلیمان محمد توبولیاک (1995م)، وکتاب "الأحکام الشرعیّة الناظمة للعادات الاجتماعیّة للأقلّیّات المسلمة فی أمریکا" لعمّار منذر محمد قحف (2001م)، وکتاب "التنظیم القضائیّ للأقلّیّات المسلمة" لمهنّد فؤاد استیتی (2006م)، وکتاب "فقه الأقلّیّات المسلمة فی مسائل الأحوال الشخصیّة" لأمل یوسف القواسمی (2006م)، وکتاب "دراسة مقارنة للأوضاع التعلیمیّة للأقلّیّات المسلمة فی الهند وسریلانکا یوغسلافیا ومدى جهود العالم الإسلامیّ لمواجهة هذه الأوضاع" لعلی سالم إبراهیم النباهین (1985م)...
ثالثاً: موقف علماء الإسلام من فقه الأقلّیّات:
هناک مجموعة من المواقف العلمیّة تجاه فقه الأقلّیّات؛ سواء أکانت مواقف إیجابیّة أم سلبیّة أم محایدة أم معتدلة. ومن بین هذه المواقف:
1. موقف یدافع عن فقه الأقلّیّات؛ مثل: موقف الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی ومن تبعه من العلماء المسلمین؛ کطه جابر العلوانی، وغیرهما، إذ یدعو هؤلاء إلى تأصیل هذا الفقه وتثبیته وتقنینه وتأسیسه؛ نظریّة وتطبیقاً.
2. موقف بعض العلماء الذین یقبلون بالمضمون والمبدإ، ولکنّهم یرفضون المصطلح، ویستبدلونه بفقه التعایش، مثل: الشیخ عبد الله بیة، أو فقه التعارف، کما أسمیناه.
3. موقف یرفض هذا الفقه جملة وتفصیلاً، کالشیخ محمد سعید رمضان البوطی، کما یبدو ذلک جلیّاً فی محاضرته التی ألقاها فی مجلس برلمان الاتّحاد الأوروبیّ فی ستراسبورغ فی "حقوق الأقلّیّات فی الإسلام" سنة 1991م. وفی هذا الصدد، یقول البوطی فی محاضرته المعنونة بـ "لیس صدفة: تلاقی الدعوة إلى فقه الأقلّیّات مع الخطّة الرامیة إلى تجزئة الإسلام": "فی الوقت الذی یخطّط أئمّة الغزو الفکریّ فی العالم، لتجزیء العالم الإسلامیّ الواحد إلى "إسلامیّات" إقلیمیّة متعدّدة، ومن ثمّ مختلفة، فمتصارعة، تتعاظم وتتلاحق الأصوات الداعیة إلى إیجاد ما یسمّونه بـ "فقه الأقلّیّات"، وتفصیله کسوةً إسلامیّة مناسبة للإسلام الذی یتنامى الیوم فی الغرب -بشطریه الأوروبیّ والأمریکیّ- دون الإسلام الآخر المنتشر فی الأوطان الإسلامیّة عامّة. ولقد قلت سائلاً: ما هی المستندات أو الأسس التی ینبغی أن یستولد منها "فقه الأقلّیّات" هذا؟ فقیل لی: إنّها کثیرة: قاعدة المصالح.. الضرورات تبیح المحظورات.. المشقّة تجلب التیسیر.. ما جعل علیکم من الدین من حرج. قلت: ولکنّ هذه المستندات لیست خاصّة للمسلمین المقیمین فی أوروبا وأمریکا.. إنّها مستندات لفقه إسلامیّ عالمیّ لا وطن لـه، ولم تکن یوماً ما مستندات لما تسمّونه "فقه الأقلّیّات" دون غیره، فحیثما وجدت الضرورة بمعناها الشرعیّ المعروف ارتفع الحظر المسبّب لها، وأینما وجدت المشقّة التی تتجاوز الحدّ المعتاد، تثبت الرخصة الشرعیّة المتکفّلة برفعها، وحیثما تعارضت المصلحتان فی سلّم المقاصد الشرعیّة، قدّمت الأَوْلَى منهما.. ولم نجد فی قرآن أو سنّة، ولا فی کلام أحد من أئمّة الشریعة الإسلامیّة، أنّ هذه المستندات خاصّة بحال الأقلّیّات التی تقیم فی دیار الکفر، فلا یجوز لغیرهم من المسلمین فی العالم الإسلامیّ الأخذ بها والاستناد إلیها. قیل لی: إنّ الضرورات التی تنبثق منها الحاجة الماسّة إلى فقه خاصّ بتلک الأقلّیّات، نابعة من وجودهم فی مجتمعات غیر إسلامیّة، لها خصوصیّتها المتمیّزة عن المجتمعات الإسلامیّة! قلت: أیّ إسلام هذا الذی یقرّر أنّ مجرّد وجود المسلم فی دار الکفر یُعدّ ضرورة تبرّر تشریع فقه إسلامیّ خاصٍ به، ینسجم مع ما یحیط به من تیارات الکفر والفسوق والعصیان؟! إذاً، فلماذا شرّع الله الهجرة وأمر بها، من دار الکفر (إن لم یتح للمسلم تطبیق أحکام الإسلام فیها) إلى دار الإسلام، وهلا أقام رسول الله وصحبه بین ظهرانی المشرکین فی مکّة، مستندین فی ذلک إلى هذا الذی لم یکن یعرفه ممّا تسمّونه "فقه الأقلیات"؟ وإذا کان مجرّد وجود المسلمین فی دار الکفر مصدراً لضرورة تبرِّرُ ابتداع فقه جدید یناسب حال تلک الدار ومَنْ فیها، فمن هم الذی عناهم الله تعالى بقوله: {إنّ الذین توفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم قالوا فیم کنتم قالوا کنّا مستضعفین فی الأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها فأولئک مأواهم جهنّم وساءت مصیراً} (النساء: 4). لقد کنّا نستبشر بأنّ تزاید المسلمین فی الغرب مع التزامهم بالإسلام وانضباطهم بأحکامه، یبعث على ذوبان الحضارة الغربیّة الجانحة فی تیار الحضارة الإسلامیّة. ولکنّا الیوم، وفی ظلّ الدعوة الملحّة إلى ما یسمّى بـ "فقه الأقلّیّات" نعلم أننا مهدّدون بنقیض ما کنّا نستبشر به، إنّنا مهدّدون بذوبان الوجود الإسلامیّ فی تیار الحضارة الغربیّة الجانحة، بضمانة من هذا الفقه. ألا فلیتّق الله أئمّة هذه الدعوة التی لا عهد لنا بها قبل الیوم، ولیعلموا أنّ ثمرتها تحقیق ما یراد بالإسلام الیوم، من تحویله إلى إسلامات إقلیمیّة متنوّعة، وإنّ لنا فی المجامع الفقهیّة الکثیرة فی عالمنا العربیّ والإسلامیّ ما یغنی عن ابتداع مرجعیّات خاصّة، متخصّصة بهذا الفقه الإسلامیّ الجدید الذی لا عهد للشریعة الإسلامیّة به[11].
وهذا یعنی أنّ الشیخ محمد سعید رمضان البوطی یدعو إلى فقه عالمیّ وکونیّ بامتیاز، یکون مرجعاً لکافّة العالمین، وفی الوقت نفسه، یعترف هذا الفقه العامّ بالضرورات التی تستلزمها الأقلّیّات فی الدول الغربیّة أو دار الغربة أو المهجر. لذا، فلا داعی إلى فقه الأقلّیّات إطلاقاً، ما دامت هناک مرونة الإسلام ویسره وسماحته ورخصه الکثیرة وضروراته المتنوّعة. أمّا ابتداع فقه الأقلّیّات بهذا الاسم، فالغرض منه هو تجزیء الدین الإسلامیّ إلى فقهیّات وإسلامیّات متعدّدة.
لکنّ "الحقیقة أنّ تخوّف فضیلة الدکتور محمد سعید رمضان البوطی مبالغ فیه، وإلا فإنّ الأقلّیّات المسلمة فی حاجة إلى بیان کثیر من الأحکام الشرعیّة المتعلّقة بمعاملاتها وعباداتها، ولا یعنی ذلک مطلقاً الدعوة إلى تجزئة الإسلام أو التفریق بین فقهه واجتهاده الموحّد أصلاً بوحدة أصوله وتشریعاته. والله أعلم."[12]
رابعاً: مقوّمات فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر:
ینبنی فقه المهجر على مجموعة من المرتکزات أبرزها الآتی:
- تعلّقه بأقلّیّة مسلمة فی غیر المجتمع الإسلامیّ.
- مواکبته لما تواجهه الأقلّیّة المسلمة من مشاکل مختلفة فی بلاد المهجر؛ اجتماعیّة وسیاسیّة ودینیّة واقتصادیّة وثقافیّة ودینیّة وحضاریّة.
- مراعاته لمتغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- مراعاته لفقه الجماعة؛ فضلاً عن فقه الفرد.
- استقلاله بمکوّناته النظریّة والتطبیقیّة على غرار الفقه السیاسیّ، والفقه الاقتصادیّ، والفقه الاجتماعیّ...
- استفادته من خصائص التشریع؛ بلحاظ مرونته، ووسطیّته، واعتداله، ویسره، ومواکبته للواقع...
- اتّسامه بخاصّیّة التعارف والتفاهم والتسامح والانفتاح على الآخر...
خامساً: أهداف فقه الأقلّیّات:
ثمّة مجموعة من الأهداف التی یرمی فقه المهجر أو فقه التعارف أو فقه الأقلّیّات إلى تحقیقها؛ أبرزها الآتی:
- تأسیس علم جدید وتأصیله فی ضوء الفقه المعاصر؛ یسمّى بفقه التعارف.
- النظر فی مشاکل المسلمین فی بلاد المهجر فی ضوء فقه معاصر مرن مواکب للواقع ومتغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- إیجاد الحلول لجمیع المشاکل التی تعانی منها الأقلّیّات المسلمة فی بلاد المهجر على المستویات السیاسیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والدینیّة والحضاریّة.
- الحفاظ على هویة المهاجرین وجوهر شخصیّتهم الإسلامیّة بالنظر إلى أحوالهم ومشاکلهم ومستلزماتهم.
- نشر الإسلام بین صفوف غیر المسلمین؛ بتثبیته فی أوساط الأقلّیّات عن طریق الاقتداء والاسترشاد والتمثّل.
- مساعدة الأقلّیّات على الوعی بشریعتها السمحة، والانفتاح على الآخرین انفتاحاً إیجابیّاً، والتفاعل معهم على أساس التعارف والتسامح والتفاهم والتعایش والصداقة.
- تثقیف الأقلّیّات فی أمورها الدینیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة والثقافیّة؛ لکی لا تکون عرضة الاستلاب والذوبان والاستغلال والضغط القسریّ.
سادساً: خصائص فقه الأقلّیّات:
یتمیّز فقه الأقلّیّات أو فقه المهجر أو فقه التعارف بمجموعة من الخصائص والممیّزات؛ نجملها فی الآتی:
- سهولته ومرونته ویسره.
- انطلاقه من أصول فقه النصّ، مع مراعاة المتغیّرات المکانیّة والزمانیّة للواقع.
- توفیقه بین الاجتهادات الفقهیّة التراثیّة والاجتهادات الشرعیّة المعاصرة.
- نظرته إلى قضایا المهاجرین المغتربین من خلال منطق التعارف، فی ضوء رؤیة إسلامیّة عالمیّة منفتحة، تراعی خصائص الشعوب الأخرى.
- انطلاقه من الفقه المقاصدیّ الذی یراعی مصالح الإنسان وضروراته وحاجیّاته.
- إرجاعه الفروع إلى الأصول، وربطه الجزئیّات بالکلّیّات، وبحثه عن المصالح مع درئه للمفاسد.
- حفاظه على الشخصیّة المسلمة فی کلّ جوانبها الذهنیّة والعقلیّة والوجدانیّة والدینیّة والحضاریّة والثقافیّة، مع الانفتاح على الآخر انفتاحاً إیجابیّاً، یقوم على التعارف والتفاهم والتسامح والتعایش.
- صیرورته مرجعاً یجمع الاجتهادات الفقهیّة التی تخصّ الأقلّیّات المسلمة فی مختلف النواحی الدنیویّة والأخرویّة.
- أصالته بمکوّناته، واستقلاله بفروعه الجزئیّة، وتفرّده بمنهجه الأصولیّ الاستنباطیّ.
سابعاً: المشاکل التی یعالجها فقه الأقلّیّات:
یعانی المسلمون المغتربون فی أرض المهجر مشاکل عدّة تتعلّق باغترابهم عن أرض الإسلام، وعدم القدرة على الاندماج فی المجتمع الغربیّ، والتخوّف من ضیاع هویّتهم وشخصیّتهم الإسلامیّة، وعدم تملّکهم العلم وتقنیات التکنولوجیا، وعزلتهم عن المجتمع، وإحساسهم بکونهم أقلّیّات متفرّقة، وصعوبة التوصّل إلى تحصیل تمثیلیّة قویّة فی المجتمع الغربیّ، ووجود مفارقة صارخة بین عقیدتهم وسلوکهم العملیّ، وضعف إنتاجهم وترجماتهم، وضعف تسویق أخلاقهم الإسلامیّة...
ومن ثمّ، فهناک أنواع من المشاکل التی تحتاج إلى توضیح وإفتاء وحلول فقهیّة ناجعة نوجزها فی الآتی:
1. مشاکل سیاسیّة، ومنها: الانتخاب فی بلاد المهجر، التصویت على الأحزاب السیاسیّة من غیر المسلمین، مساندة الأحزاب السیاسیّة الأجنبیّة، تأسیس حزب إسلامیّ فی أرض الغربة،حکم هجرة المسلم إلى بلد آخر یتوافر فیه العدل بین الناس،حکم الالتزام بأنظمة الدول الکافرة للمسلم المقیم فیها، حکم الهجرة إلى بلاد الکفّار مخافة الضرر،حکماتّباع القوانین فی بلاد الکفر، اللجوء السیاسیّ إلى البلاد غیر الإسلامیّة،والمشارکة فی جیوش المشرکین...
2. مشاکل اجتماعیّة، ومنها: الإقامة فی بلاد الکفر، العمل فی متاجر تبیع الخمور والخنازیر، التزوّج بکتابیّة أو وثنیّة، الزواج الأبیض[13]، حکم التجنّس بالجنسیّة الأوروبیّة للمسلم، دفن المسلمین فی مقبرة غیر المسلمین، زواج مسلمة من شیوعیّ، زواج المسلم بغیر المسلمة، إسلام المرأة دون زوجها، میراث المسلم من غیر المسلم، تهنئة أهل الکتاب بأعیادهم، التعامل مع الجار غیر المسلم،الضوابط الشرعیّة للعمل فی المهجر، حکم لبس الملابس الغربیّة، حکم حلق اللحى وتهذیبها، انحرافات بعض المسلمین فی بلاد الغرب، الاحتکام إلى محاکم غیر المسلمین،وحکم سفر المرأة إلى بلاد الغرب والبقاء بدون محرم...
3. مشاکل اقتصادیّة، منها: شراء البیوت فی الغرب عن طریق البنوک، بناء المراکز الإسلامیّة من أموال الزکاة، التصدّق على فقراء المهجر، الاستثمار فی بلاد المهجر،حکم المساهمة المالیّة فی أعیاد المیلاد، حکم جمع المسلم التبرّعات للکنیسة، وحکم إعطاء الکفّار من الزکاة والصدقات...
4. مشاکل دینیّة، منها:الجمع بین الصلوات فی بلاد المهجر، صلاة الجمعة قبل الزوال وبعد العصر، الجمع بین صلاتی المغرب والعشاء فی الصیف والشتاء، مشکلة رؤیة الهلال،تعلیق الصلبان والتماثیل فی المسجد،قصر الصلاة للمقیم فی بلاد الکفر،قضاء الدین من الربا، حکممن مکث مدّة طویلة خارج بلده بالنسبة إلى قصر الصلاة، حکم صلاة الجمعة فی بلد نصرانی لا تقام فیه الصلاة، حکم دخول الکنائس لأجل الدعوة أو لأجل الفرجة،وحکمخطبة الجمعة بغیر العربیة...
5. مشاکل متعلّقة بالأطعمة والأشربة، منها:ترک الأضحیة لوجود أوبئة البقر والغنم، حکم الخلّ المصنوع من الخمر، حکم الإنزیمات التی أصلها خنزیر، أکل اللحوم غیر الحلال، ومنع الذبح فی بلاد المهجر...
6. مشاکل تربویّة وتعلیمیّة، منها: وضعیّة التعلیم فی مدارس المهجر، تدریس مقرّرات بلدان المهجر،الدراسة فی بلاد الغرب، ونزع الحجاب فی المؤسّسات التعلیمیّة والجامعیّة...
7. مشاکل ثقافیّة: الاندماج فی ثقافة بلاد المهجر، الترویج لثقافة المهجر، وإقامة التمثیلیّات فی مساجد المراکز الإسلامیّة...
8. مشاکل حضاریّة؛ منها: التعامل مع حضارة الآخر، التقریب بین الدین الإسلامیّ والدین النصرانیّ، حوار الحضارات، علاقة المسلم بالآخر الکتابیّ أو الوثنیّ أو المشرک، المثاقفة والاحتکاک الحضاریّ، الجلوس بین ظهرانیّ المشرکین، التعامل مع الکفّار، التعامل مع الفرق الأخرى،وعیادة المریض الکافر أو تهنئته...
وثمّة مشاکل عدیدة یطرحها فقه الأقلّیّات بشکل من الأشکال، ومن الصعب حصرها بطریقة مسحیّة فی هذا الحیّز الضیّق من هذه الدراسة النظریّة العامّة.
ثامناً: تأصیل فقه التعارف:
إذا أردنا تأصیل فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف، فلا بدّ من وضع أسس منهجیّة معیّنة فی ذلک، نظریّاً وتطبیقیّاً على النحو الآتی:
- الاجتهاد وفق رؤیة إسلامیّة معاصرة تراعی متغیّرات الزمان والمکان ومستجدّاتهما.
- الانطلاق من القرآن الکریم والسنّة النبویّة الشریفة.
- تمثّل فقه المقاصد بآلیّاته الشرعیّة التی تتعلّق بمصالح الناس وضروراتهم وحاجیّاتهم، والموازنة بین المصالح ودرء المفاسد.
- مراعاة فقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولویّات، والضروریّات والحاجیّات البشریّة.
- تطبیق الفقه المقارن، والأخذ بمبدإ الترجیح من خلال استقراء الأدلّة الشرعیّة، والمقارنة بین الآراء الفقهیّة الراجحة.
- ضرورة الاجتهاد، وتجاوز الفقه الموروث.
- تبنّی منهج التیسیر ما وجد إلیه سبیلاً، ونفی العسر والحرج والمشقّة والتکلیف بما لا یطاق؛ استناداً إلى کلّیات القواعد الفقهیّة المقتنصة من القرآن الکریم والسنّة الشریفة.
وعلى العموم، لا بدّ من وجود فقه خاصّ یجیب عن المشاکل والأسئلة المختلفة التی تطرحها الأقلّیّات فی ضوء رؤیة إسلامیّة معاصرة قائمة على التعارف والتسامح والتعایش، والأخذ بمنطق الضرورة والتخفیف والتیسیر، والابتعاد عن الضیق والتعسیر والحرج. وفی هذا الصدد، یقول طه جابر العلوانی فی مقالة له بعنوان "نظرات تأسیسیّة فی فقه الأقلّیّات": "وربّما حاول بعضهم الإجابة عن هذا النمط من الأسئلة بمنطق "الضرورات" و"النوازل"، ناسین أنّه منطق هشّ لا یتّسع لأمور ذات بال. وربّما واجه المسلم فوضى فی الإفتاء: فهذا الفقیه یُحِلُّ، وذاک یُحَرِّم، وثالث یستند إلى أنّه یجوز فی "دار الحرب" ما لا یجوز فی "دار الإسلام"، ورابع یقیس الواقع الحاضر على الماضی الغابر قیاساً لا یأبه بالفوارق النوعیّة الهائلة بین مجتمع وآخر، وبین حقبة تاریخیّة وأخرى؛ بل لا یأبه بالقواعد الأصولیّة القاضیة بمنع قیاس فرع على فرع… فتکون النتیجة المنطقیّة لهذا المنطلق المنهجیّ الخاطئ إیقاع المسلمین فی البلبلة والاضطراب، وتحجیم دورهم المرتقَب، والحُکم علیهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحیاة الإسلامیّة، وفرض التخلّف علیها، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنیر فی زماننا هذا. والحق أنّ مشکلات الأقلّیّات المسلمة لا یمکن أن تواجَه إلا باجتهاد جدید، ینطلق من کلّیَّات القرآن الکریم وغایاته وقیمه العلیا ومقاصد شریعته ومنهاجه القویم، ویستنیر بما صحّ من سنّة وسیرة الرسول (ص) فی تطبیقاته للقرآن وقِیمه وکلّیَّاته.
وبناءً علیه، فلا بدّ من فقه معاصر جدید، یستفید من الفقه القدیم، ومن ثمّ، لا یشدّد علیها عسراً وضیقاً وحرجاً. کما ینبغی أن یستفید هذا الفقه من الاجتهادات المعاصرة فی مختلف مقارباتها، رغبة فی تأسیس فقه یواکب مستجدّات واقع الأقلّیّات فی بلدان المهجر.
ومن جهة أخرى، نتفهّم جیّداً موقف الفقهاء الذین یتخوّفون من الأخذ بفقه الضرورة والتوسّع من رخص التسامح؛ لما یترتّب على ذلک من مخاطر ومزالق فقهیّة جمّة، قد تحوّل الفقه الإسلامیّ إلى فقه الجواز والمرونة والضرورة والإباحة. وفی الوقت نفسه، نثبت أنّ هذا الفقه لا بدّ من أن یستعین بمجموعة من الضوابط والمقاصد والشروط التی لا تترکه عرضة للمرونة الممیعة والسائبة؛ بل لا بدّ من قیود ملزمة تربط هذا الفقه الجدید بأصول الفقه العامّ ومقاصده الشرعیّة الکبرى.
خاتمة:
یتبیّن ممّا تقدّم أنّ فقه الأقلّیّات أو فقه التعارف أو فقه المهجر هو ذلک الفقه الذی یدرس مختلف المشاکل التی تعترض الأقلّیّات فی بلدان المهجر، مع تقدیم الحلول الناجعة لهذه المشاکل فی ضوء فقه إسلامیّ معاصر، یتبنّى الاجتهاد الذی یراعی مصالح الأقلّیّات، ویدرأ عنها المفاسد من خلال تطبیق طریقة فقهیّة مرنة ومیسّرة؛ منهجاً وسبیلاً ومسلکاً، مع تمثّل آلیّات الفقه المقاصدیّ؛ تشریعاً وإفتاءً وحکماً، على أن یکون هذا الفقه فقهاً کلّیّاً عامّاً أو فقهاً فرعیّاً أو جزئیّاً. ومن ثمّ، فهذا الفقه یجیب عن مجموعة من الأسئلة أو القضایا التی تؤرّق المهاجرین؛ سواء أکانت سیاسیّة أم اجتماعیّة أم اقتصادیّة أم ثقافیّة أم دینیّة أم حضاریّة...
ولا بدّ لهذا الفقه من أن یتجاوز الدلالة السیاسیّة لمصطلح الأقلّیّات، لینفتح على مصطلح التعارف الذی یوحی بطبیعة العلاقات الإنسانیّة الإیجابیّة التی تجمع بین المسلم وجاره غیر المسلم؛ لأنّ الأهمّ هو المعاملة الحسنة، والتصرّف الطیّب اللائق مع الآخر؛ مصداقاً لقوله تعالى: {لَا یَنْهَاکُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقَاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِوَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواإِلَیْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ}[14].
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] عند الدکتور خالد محمد عبد القادر فی کتابه: من فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، قطر-الدوحة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة، 1998م.
[3] عند الدکتور عبد المجید النجار فی کتابه: فقه المواطنة.
[4] عند الشیخ یوسف القرضاوی فی کتابه: فی فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، القاهرة، دار الشروق، 2001م.
[5] سورة الحجرات، الآیة 7.
[6] سورة النساء، الآیات: 97-99.
http://globemuslims.com/ar/news/13001/
[9] وقد ذکر الدکتور الشیخ یوسف القرضاوی، فی کتابه "فقه الأقلّیّات المسلمة"، مجموعة من المراحل الفرعیّة التی تندرج ضمن مرحلة الصحوة الإسلامیّة الکبرى؛ مثل: مرحلة الشعور بالهویّة، ومرحلة الاستیقاظ، ومرحلة التحرّک، ومرحلة التجمّع، ومرحلة البناء، ومرحلة التوطین، ومرحلة التفاعل. انظر: فی فقه الأقلّیّات المسلمة، ط1، القاهرة، دار الشروق، القاهرة، 2001م، ص23.
[12] حمیش، عبد الحق: قضایا فقهیّة معاصرة، کلّیّة الشریعة والدراسات الإسلامیّة، جامعة الشارقة، الموسم الدراسیّ 2002-2003م، ص277.
[13] الزواج الأبیض: ینتشر هذا الزواج فی المغرب کثیراً، ولا یعدّ زواجا حقیقیّاً أو شرعیّاً فی منظور الإسلام، بل هو زواج مصلحة ومنفعة، والغرض منه هو الحصول على أوراق الإقامة مقابل مبلغ مالیّ. ولا یمکن أن یستفید الراغب بتلک الأوراق إلا بالزواج الشکلیّ؛ حتى تسمح له الدولة الأجنبیّة بالدخول إلى بلدها عبر ذلک الزواج القانونیّ/ المزیّف. وبمجرّد أن یصل الزوج أو الزوجة إلى البلد المضیف، یطلّق الزوج زوجته، أو تطلّق الزوجة زوجها.
[14] سورة الممتحنة، الآیة 8.