وقف الأنفال - دراسة فقهیّة وحقوقیّة –
اسم المؤلِّف[1]
خلاصة:
تشکّل الأنفال مجموعةً مهمّةً من الأموال التی کانت بتصرّف الأئمّة (عله) فی ظلّ أنظمة الحکم الإسلامیّة؛ بهدف المساهمة فی حلّ مشاکل المجتمع.
وهناک شبه إجماعٍ بین فقهاء الإمامیّة فی موضوع الأنفال ومصادیقه، لا مجال لسرد آرائهم جمیعاً؛ إذ إنّ الهدف من البحث دراسة إمکانیّة وقف الأنفال، لا إحصاء کلّ الآراء فیها، الأمر الذی یجعل من الطبیعیّ تعمیم حکمٍ فی مصداقٍ من مصادیق الأنفال على سائر المصادیق الأخرى.
ومن هنا، تکمن أهمّیّة دراسة إمکانیّة وقف تلک الأموال من الناحیتَین الفقهیّة والحقوقیّة؛ من خلال مقاربةٍ إجمالیّةٍ للأنفال ومصادیقها، فی ضوء کلٍّ من القرآن والسنّة، حیث یمکن القول: إنّ مفهوم الأنفال لا یقتصر على غنائم الحرب فحسب؛ بل یشمل جمیع الأموال التی لیس لها مالک خاصّ، وهذه الأموال جمیعها لله تعالى وللرسول (ص) ولمن یلی أمره ویخلفه؛ أی للحکومة الإسلامیّة، على أن تصرفها فی منافع المسلمین العامّة.
مصطلحات مفتاحیّة:
الأنفال، الوقف، ملکیّة الأنفال، وقف الأنفال، الرسول، الإمام، الولی الفقیه، الحکومة الإسلامیّة، المنافع العامّة، ...
مقدّمة:
الوقف سنّةٌ حسنةٌ یمکن عدّها من إبداعات الدین الإسلامیّ؛ فعلى الرغم من وجود عناوین شبیهة به فی القوانین الوضعیّة لبعض الدول غیر الإسلامیّة، فإنّ الفضل فی تأسیسها یعود إلى الحقل الحقوقیّ فی الإسلام.
تناول القرآن الکریم أهمّیّة الوقف ومکانته بصورةٍ عامّةٍ، کما تعرّضت لها أحادیث المعصومین (عله) بشکلٍ تفصیلیٍّ ومصداقیٍّ، الأمر الذی یجعلهم -بشکلٍ تلقائی- روّاد العمل بهذه السنّة الحسنة.
وتشکّل الأنفال مجموعةً مهمّةً من الأموال التی کانت بتصرّف الأئمّة (عله) فی ظلّ أنظمة الحکم الإسلامیّة؛ بهدف المساهمة فی حلّ مشاکل المجتمع.
ومن هذا المنطلق، تهدف هذه المقالة إلى دراسة إمکانیّة وقف تلک الأموال من الناحیتَین الفقهیّة والحقوقیّة؛ من خلال مقاربةٍ إجمالیّةٍ للأنفال ومصادیقها، فی ضوء کلٍّ من القرآن والسنّة.
أولاً: مفهوم الأنفال:
1. الأنفال فی اللّغة:
ذکر ابن فارس فی مقاییسه: "النون الفاء واللام أصل صحیح یدلّ على عطاء وإعطاء. منه النافلة عطیة الطوع من حیث لا تجب. ومنه نافلة الصلاة... والجمع أنفال؛ وذلک أنّ الإمام ینفل المحاربین؛ أی یعطیهم ما غنموه. یقال: نفلتک أعطیتک نفلاً"[2].
وذکر ابن مکرم فی لسان العرب أنّ الأنفال بمعنى الغنیمة والعطیّة[3].
کما أورد الراغب الأصفهانی معانٍ عدّة للأنفال: "النَّفَلُ. قیل: هو الغَنِیمَةُ بعَیْنِهَا، لکن اختلفتِ العبارةُ عنه لاختلافِ الاعْتِبَارِ، فإنّه إذا اعتُبِر بکونه مظفوراً به یقال له: غَنِیمَةٌ، وإذا اعْتُبِرَ بکونه مِنْحَةً من اللَّه ابتداءً من غیر وجوبٍ یقال له: نَفَلٌ، ومنهم من فَرَّقَ بینهما من حیثُ العمومُ والخصوصُ، فقال: الغَنِیمَةُ ما حَصَلَ مسْتَغْنَماً؛ بِتَعَبٍ کان أو غَیْرِ تَعَبٍ، وباستحقاقٍ کان أو غیرِ استحقاقٍ، وقبل الظَّفَرِ کان أو بَعْدَه. والنَّفَلُ: ما یَحْصُلُ للإنسانِ قبْلَ القِسْمَةِ من جُمْلَةِ الغَنِیمَةِ، وقیل: هو ما یَحْصُلُ للمسلمین بغیر قتالٍ، وهو الفَیْءُ، وقیل: هو ما یُفْصَلُ من المَتَاعِ ونحوه بَعْدَما تُقْسَمُ الغنائمُ، وعلى ذلک حُمِلَ قولُه تعالى: {یَسْئَلُونَکَ عَنِ الأَنْفالِ} (الأنفال: الآیة 1)، وأصل ذلک من النَّفْلِ؛ أی: الزیادةِ على الواجبِ"[4].
2. الأنفال فی القرآن الکریم:
وردت تلک الکلمة صراحةً فی القرآن الکریم، وذلک فی الآیة الأولى من السورة التی تحمل اسمها؛ حیث یقول تعالى: {یَسْأَلُونَکَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَیْنِکُمْ وَأَطِیعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ}[5].
کما ذکر القرآن الکریم کلماتٍ مشتقّةً من مادّة "نفل" فی عدّة آیات؛ منها: {وَمِنْ اللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَکَ عَسَى أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَاماً مَحْمُوداً}[6]، {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ نَافِلَةً وَکُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِینَ}[7].
کما تناول القرآن الکریم موضوع الأنفال مبیّناً محدّداته من دون التصریح بها لفظاً؛ وذلک فی الآیتَین السابعة والثامنة من سورة الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَىٰ وَالْیَتَامَىٰ وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لَا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواوَاتَّقُوا اللَّهَإِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِینَ الَّذِینَ أُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ یَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَیَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِکَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
3. الأنفال فی الروایات الشریفة:
- صحیحة حفص بن البختریّ، عن الإمام الصادق (ع): "الأنفال ما لم یوجَف علیه بخَیلٍ ولا رکاب، أو قوم أعطوا بأیدیهم، وکلّ أرضٍ خربةٍ وبطون الأودیة؛ فهو لرسول الله (ص) وهو للإمام من بعده یضعه حیث یشاء"[8].
- موثّقة سماعة بن مهران، قال: سألته عن الأنفال، فقال: "کلّ أرضٍ خرِبةٍ أو شیء یکون للملوک؛ فهو خالصٌ للإمام ولیس للناس فیه سهمٌ"[9].
- روایة محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق (ع)، أنّه سمعه یقول: "إنّ الأنفال ما کان من أرضٍ لم یکن فیها هراقة دمٍ، أو قوم صولِحوا، أو أَعطوا بأیدیهم، وما کان من أرضٍ خرِبةٍ أو بطون أودیة؛ فهذا کلّه من الفیء والأنفال، والأنفال لله والرسول؛ فما کان لله فهو للرسول یضعه حیث یحبّ"[10].
- روایة ابن فرقد، عن الإمام الصادق (ع)، قال: قلت له: وما الأنفال؟ قال: "بطون الأودیة، ورؤوس الجبال، والآجام، والمعادن، وکلّ أرضٍ لم یوجَف علیه بِخَیلٍ ولا رکابٍ، وکلّ أرضٍ میتةٍ قد جلا أهلها، وقطائع الملوک"[11].
- روایة إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق (ع)، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الأنفال، فقال: "هی القرى التی قد خربت وانجلى منها أهلها؛ فهی لله وللرسول، وما کان للملوک فهو للإمام، وما کان من أرضٍ خربةٍ لم یوجَف علیها بِخَیلٍ ولا رکابٍ، وکلّ أرضٍ لا ربَّ لها، والمعادن منها، ومن مات ولیس له مولىً فما له من الأنفال"[12].
- موثّقة زرارة عن الإمام الصادق (ع): قلت له: ما یقول الله: {یسألونک عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول}، قال: "الأنفال لله وللرسول (ص)، وهی کلّ أرضٍ جلا أهلها من غیر أن یُحمَل علیها بِخَیلٍ ولا رکابٍ؛ فهی نفلٌ لله وللرسول"[13].
- موثّقة عبد الله بن سنان، عن الإمام الصادق (ع) الواردة فی خمس الغنیمة: "قال: یخرج منه الخمس، ویقسّم ما بقی بین من قاتل علیه وولّى ذلک، وأمّا الفیء والأنفال، فهو خالصٌ لرسول الله (ص)"[14].
- مضمرة سماعة بن مهران: سألته عن الأنفال، فقال: "کلّ أرضٍ خربةٍ، أو شیء یکون للملوک؛ فهو خالصٌ للإمام، ولیس للناس فیها سهمٌ"[15].
- المرسلة المنقولة فی تفسیر العیّاشیّ، عن عبد الله بن سنان، عن الإمام الصادق (ع): "سألته عن الأنفال، قال: هی القرى التی قد جلا أهلها، وهلکوا، فخربت، فهی لله وللرسول"[16].
وغیرها أحادیث کثیرة فی هذا الباب[17].
4. الأنفال فی کلام فقهاء الإمامیّة:
- تناول المحقّق الحلّیّ (صاحب شرائع الإسلام)، فی کتاب إحیاء الموات، بعض مصادیق الأنفال توضیحاً، معتبراً إیّاها خاصّةً بالإمام، مفصّلاً ذلک بالقول: "فالعامرة: ملک لمالکه، ولا یجوز التصرّف فیه إلا بإذنه. وکذا ما به صلاح العامر، کالطریق والشرب والقناة. ویستوی فی ذلک، ما کان من بلاد الإسلام، وما کان من بلاد الشرک، غیر أنّ ما کان من بلاد الإسلام لا یغنم، وما فی بلاد الشرک یملک بالغلبة علیه. وأمّا الموات: هو الذی لا ینتفع به لعطلته؛ إمّا لانقطاع الماء عنه، أو لاستیلاء الماء علیه، أو لاستیجامه، أو غیر ذلک من موانع الانتفاع، فهو للإمام (ع) لا یملکه أحد -وإن أحیاه- ما لم یأذن له الإمام. وإذنه شرط، فمتى أذن ملکه المحیی له، إذا کان مسلماً؛ إذ لا یملکه الکافر. والأرض المفتوحة عنوةً، للمسلمین قاطبةً، لا یملک أحد رقبتها، ولا یصحّ بیعها ولا رهنها"[18].
- یقول الإمام الخمینیّ (قده) فی تحریر الوسیلة: "القول فی الأنفال، وهی ما یستحقّه الإمام (ع) على جهة الخصوص لمنصب إمامته، کما کان للنبیّ (ص) لریاسته الإلهیّة، وهی أمور، منها: کلّ ما لم یوجف علیها بخیل ورکاب، أرضاً کانت أو غیرها، انجلى عنها أهلها أو سلّموها للمسلمین طوعاً. ومنها: الأرض الموات التی لا ینتفع بها إلا بتعمیرها وإصلاحها؛ لاستیجامها، أو لانقطاع الماء عنها، أو لاستیلائه علیها، أو لغیر ذلک، سواء لم یجر علیها ملک لأحد، کالمفاوز؛ أو جرى، ولکن قد باد ولم یعرف الآن، ویلحق بها القرى التی قد جلا أهلها فخربت، کبابل والکوفة ونحوهما، فهی من الأنفال بأرضها وآثارها؛ کالأحجار ونحوها، والموات الواقعة فی الأرض المفتوحة عنوةً؛ کغیرها على الأقوى. نعم ما علم أنّها کانت معمورة حال الفتح عرض له الموتان بعد ذلک، ففی کونها من الأنفال أو باقیة على ملک المسلمین -کالمعمورة فعلاً- تردّد وإشکال لا یخلو ثانیهما من رجحان. ومنها: أسیاف البحار وشطوط الأنهار، بل کلّ أرض لا ربّ لها على إشکال فی إطلاقه، وإنْ کان لا یخلو من قرب، وإن لم تکن مواتاً، بل کانت قابلة للانتفاع بها من غیر کلفة، کالجزائر التی تخرج فی دجلة والفرات ونحوهما. ومنها: رؤوس الجبال وما یکون بها من النبات والأشجار والأحجار ونحوها، وبطون الأودیة، والآجام، وهی الأراضی الملتفّة بالقصب والأشجار، من غیر فرق فی هذه الثلاثة بین ما کان فی أرض الإمام (ع)، أو المفتوحة عنوةً، أو غیرهما. نعم ما کان ملکاً لشخص ثمّ صار أجمةً -مثلاً- فهو باقٍ على ما کان. ومنها: ما کان للملوک من قطائع وصفایا. ومنها: صفو الغنیمة، کفرس جواد، وثوب مرتفع، وسیف قاطع، ودرع فاخر، ونحو ذلک. ومنها: الغنائم التی لیست بإذن الإمام (ع). ومنها: إرث من لا وارث له. ومنها: المعادن التی لم تکن لمالک خاصّ، تبعاً للأرض أو بالإحیاء"[19].
وبناءً على ما تقدَّم، یمکن القول إنّ مفهوم الأنفال لا یقتصر على غنائم الحرب فحسب؛ بل یشمل جمیع الأموال التی لیس لها مالک خاصّ، وهذه الأموال جمیعها لله تعالى وللرسول (ص) ولمن یلی أمره ویخلفه؛ أی للحکومة الإسلامیّة، على أن تصرفها فی منافع المسلمین العامّة.
وهناک شبه إجماعٍ بین فقهاء الإمامیّة فی موضوع الأنفال ومصادیقه، لا مجال لسرد آرائهم جمیعاً؛ إذ إنّ الهدف من بحثنا دراسة إمکانیّة وقف الأنفال، لا إحصاء کلّ الآراء فیها، الأمر الذی یجعل من الطبیعیّ تعمیم حکمٍ فی مصداقٍ من مصادیق الأنفال على سائر المصادیق الأخرى.
ثانیاً: ملکیّة الأنفال:
بالرجوع إلى ما تقدّم من مصادیق الأنفال فی کلٍّ من القرآن والسنّة، نجد أنّ مالکیّة الأنفال تعود إلى الله والرسول (ص) والأئمّة المعصومین (عله)، ولاسیّما بالرجوع إلى الآیة الأولى من سورة الأنفال: {یَسْأَلُونَکَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَیْنِکُمْ وَأَطِیعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ}؛ حیث یقول العلامة الطباطبائی (قده) معلّقاً على هذه الآیة: "وهی تدلّ على أنّ الأنفال جمیعاً لله ولرسوله، لا یشارک الله ورسوله فیها أحدٌ من المؤمنین؛ سواءٌ فی ذلک الغنیمة والفیء"[20]. ویضیف: "وکان ذلک سبب التخاصم بینهم، فتشاجروا فی الأمر، ورفعوا ذلک إلى رسول الله (ص)، فنزلت الآیة الأولى: {قل الأنفال لله والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بینکم} الآیة؛ فخطّأتهم الآیة فیما زعموا أنّهم مالکو الأنفال؛ بما استفادوا من قوله: {فکلوا ممّا غنمتم} الآیة، وأقرّت ملک الأنفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر"[21]. ثمّ یکمل قائلاً: "ویظهر بذلک -أیضاً- أنّ قوله: {قل الأنفال لله والرسول} حکمٌ عامٌّ یشمل بعمومه الغنیمة وسائر الأموال الزائدة فی المجتمع، نظیرَ الدیار الخالیة والقرى البائدة ورؤوس الجبال وبطون الأودیة وقطائع الملوک وترکة من لا وارث له. أمّا الأنفال بمعنى الغنائم فهی متعلّقة بالمقاتلین من المسلمین بعمل النبیّ (ص)، وبقی الباقی تحت ملک الله ورسوله"[22].
وفی هذا السیاق، یقول صاحب الجواهر: "لا کلام فی کون الأنفال ملکاً للنبیّ (ص)؛ کما یدلّ علیه الکتاب والسنّة والإجماع، ثمّ من بعده للقائم مقامَه، فما فی خبر محمّد بن مسلم: «سمعت أبا عبد الله (ع) یقول: وسئل عن الأنفال، فقال: کلّ قریة یهلک أهلها أو یجلون عنها، فهی نفل لله عزّ وجلّ؛ نصفها یقسم بین الناس ونصفها لرسول الله (ص)، فما کان لرسول الله (ص) فهو للإمام (ع)»، کخبر حریز المرویّ عن تفسیر العیّاشیّ عنه -أیضاً- یجب تأویله بإرادة القسمة تفضّلاً أو حمله على التقیّة، کما فی الحدائق، أو طرحه؛ لما عرفت، واحتمال تأییده بأنّ آیة الأنفال تقتضی التشریک بینه وبین الله تعالى فیها -فیصرف سهم الله فی سبیله والآخر یختصّ به (ع)- لا یصغى إلیه فی مقابلة ما عرفت"[23].
وقد بحث الشیخ محمّد مؤمن القمّیّ فی هذا الموضوع فی مقالة له بعنوان "ولى امر و مالکیت اموال عمومى [ولیّ الأمر ومالکیّة الأموال العامّة]"، فأوضح قائلاً: "وردت فی تفسیرَی مجمع البیان وجوامع الجامع روایاتٌ عن کلٍّ من الأئمّة زین العابدین (ع) والباقر (ع) والصادق (ع)، قرؤوا فیها تلک الآیة کما یلی: «یسألونک الأنفال» بحذف «عن»، ما یوحی بظهورها فی طلب السائلین الأنفال بأجمعها من رسول الله (ص)، فجاء الردّ فی تتمّة الآیة بقوله تعالى: «الأنفال للّه والرسول» الظاهرة فی اختصاص الأنفال بالله ورسوله، ما یقطع الطریق أمام طلبها. أمّا بناءً على قراءة «عن الأنفال»، فیمکن القول بعدم غموض خصوصیّة الأنفال التی سئل عنها، الأمر الذی یجعل من الإجابة عن سؤال الناس تأکیداً على اختصاص الأنفال بالله والرسول. إذاً، فجملة الجواب فی الآیة ظاهرةٌ فی اختصاص الأنفال بالله والرسول، وبما أنّ الاختصاص المذکور مطلق، فما هو إلا تعبیر آخر عن الملکیّة"[24].
نستنتج ممّا سبق ذکره بإیجاز أنّ ملکیّة الأنفال خاصّة بالله والرسول (ص) فی ضوء القرآن الکریم، وبما أنّ تلک الملکیّة تتعلّق بمنصب الرسول (ص)، لا بشخصه؛ فیمکن القول بأنّ تلک الأموال تعود إلى الأئمّة (عله) من بعده.
ومن خلال استعراض روایات الأئمّة (ع) فی باب أقسام الأنفال ومصادیقها، وجدناهم فی أغلب تلک الأحادیث یؤکّدون -بعد بیان المصادیق- على اختصاص ملکیّتها بالله والرسول (ص) والأئمّة (عله) من بعده؛ منها:
- صحیحة حفص بن البختریّ عن الإمام الصادق (ع).
- حدیث سماعة بن مهران عن الإمام الصادق (ع).
- موثّقة محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق (ع).
- خبر محمّد بن علیّ الحلبیّ عن الإمام الصادق (ع).
وغیرها من الأحادیث التی لا مجال لذکرها فی هذه الوجیزة.
وقد أجمع فقهاء الإمامیّة على تعلّق الأنفال بالله والرسول (ص) والأئمّة (عله) من بعده، حیث سلّطنا الضوء على نماذج من تلک الآراء فی المباحث السابقة.
وقد نصّت المادّة الخامسة والأربعون من دستور الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة على الآتی: "الأنفال والثروات العامّة؛ مثل: الأراضی الموات، والأراضی المهجورة، والمناجم، والبحار، والبحیرات، والأنهار، وکافّة المیاه العامّة، والجبال، والودیان، والغابات، ومزارع القصب، والأحراش الطبیعیّة، والمراتع التی لیست حریماً لأحد، والإرث بدون وارث، والأموال مجهولة المالک، والأموال العامّة التی تُسترَدّ من الغاصبین؛ کلّ هذه تکون باختیار الحکومة الإسلامیّة، حیث تتصرّف بها وفقاً للمصالح العامّة، والقانون یحدّد تفاصیل وطریقة الاستفادة من کلّ واحدة منها".
نلاحظ وجود ثلاث نقاط أساسیّة فی هذه المادّة:
- استعرض الدستور مصادیق الأنفال على سبیل المثال لا الحصر؛ الأمر الذی یفسح المجال لشمول مصادیق أخرى.
- نصّ الدستور على وضع تلک الأموال بتصرّف الحکومة الإسلامیّة؛ والتی یُقصَد منها الحاکم الإسلامیّ فی عصرنا الحاضر، الولیّ الفقیه الجامع للشرائط، والذی یستمدّ شرعیّته من کونه نائباً للإمام المعصوم (ع).
- أحال الدستور أمر کیفیّة استثمار أقسام الأنفال وتفاصیلها إلى القوانین الناظمة التی توضع فی هذا الخصوص.
بناءً على نصّ القرآن الکریم، وأحادیث أئمّة الهدى (ع)، وآراء فقهاء الإمامیّة ونصّ دستور الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة، فإنّ ملکیّة الأنفال تنحصر بالله والرسول (ص) والأئمّة من بعده ونوّابهم من بعدهم.
رابعاً: إمکانیّة وقف الأنفال:
قبل الخوض فی مسألة وقف الأنفال، من المناسب الإشارة بصورةٍ عابرةٍ إلى شروط الوقف، فقد ذکر قانوننا المدنیّ المنبثق من فقه الإمامیّة ضرورة توافر شرطَین أساسیَّین فی الواقف؛ هما:
- مالکیّة الواقف.
- أهلیّة الاستیفاء.
کما ذکروا شروطاً للمال الموقوفة؛ یمکن الاطّلاع علیها من مصادرها.
وطبقاً للشروط المذکورة، على الواقف أن یکون مالکاً للمال المزمع وقفه؛ ما یدفعنا إلى البحث فی من تتعلّق به مالکیّة الأنفال.
علیه، وفی ضوء ما بیّنا سابقاً من إثبات ملکیّة الرسول (ص) والأئمّة (ع) للأنفال، وبیان شروط الواقف فی القانون المدنیّ المستمدّ من فقه الإمامیّة، یمکن تبنّی القول بتقعید أصل إمکانیّة وقف الأنفال من قبل الرسول (ص) وأئمّة الهدى (ع)؛ بوصفها قاعدةٍ عامّةٍ فی هذا الباب، لتحقّق شرط الملکیّة فی الواقف وأهلیّته التی تصدق علیهم بطریقٍ أَولى من دون حاجة إلى الإثبات.
أمّا فی ما یخصّ جریان ذلک الحکم فی عصر الغیبة، فالأمر یحتاج إلى البحث، وهو ما سنتعرّض إلیه بإیجاز.
یرى جمعٌ من فقهاء الشیعة بإباحة تصرّف عامّة الشیعة أو المسلمین فی الأنفال زمنَ غیبة المعصوم (ع)، وإن اختلفوا فی نطاق تحلیله؛ إذ یقول بعض الفقهاء -کالشیخ المفید، والشیخ الطوسیّ، والمحقّق والعلّامة فی المنتهى- بانحصار التحلیل فی المناکح، لا فی کافّة أموال الإمام (ع)، فیقول العلّامة الحلّیّ فی المنتهى: "وقد أباح الأئمّة (عله) لشیعتهم المناکح فی حالتی ظهور الإمام وغیبته، وعلیه علماؤنا أجمع؛ لأنّه مصلحة لا یتمّ التخلّص من المأثم بدونها"[25]... وذهبت جماعةٌ من الفقهاء إلى إباحة التصرّف فی المناکح والمساکن والمتاجر من الأنفال والخمس، ومنع التصرّف فی ما سوى ذلک من الخمس والأنفال وغیرهما من أموال الإمام (ع) زمنَ الغیبة.
وفی مقالته التی حملت عنوان "استثمار الأنفال"، توصّل الدکتور "عبّاس کریمی" إلى النتیجة الآتیة: "إنّ تبنّی القول بإباحة الأئمّة الأطهار (عله) الأنفال لشیعتهم فی عصر الغیبة، لا یعنی الاستفادة منها بشکلٍ فردیٍّ، بل یعمّ المجتمع الشیعیّ بصورةٍ عامّةٍ". ویضیف: "... استناداً إلى قاعدتَی "ما لا یُدرَک کلّه لا یُترَک کلّه" و"المیسور لا یُترَک بالمعسور"، ینبغی القول إنّ الاستفادة الفردیّة للشیعة منها تُعتبَر من باب أقلّ مصادیق حکم الإباحة المُجازة، حتّى إنّ تکلیف المجتمع الشیعیّ باتّخاذ القرار فی هذه الظروف، مع منع الشیعة من الاستفادة الفردیّة منها، یوجِب العُسر والحرج للمجتمع الشیعیّ والشیعة بشکلٍ عامٍّ؛ الأمر الذی یسلِّط الضوء على سبب اهتمام الفقه، حتّى الآن، بالبُعد الفردیّ للموضوع، نتیجةَ عدم تبلور کیانٍ شیعیٍّ ذی جهاز صنع القرار؛ ما یُبقی الحکم الأصلیّ (الاستفادة الجماعیّة) على حاله..."[26].
وفی مقالةٍ لهما بعنوان "أثر الحکومة السیاسیّة على الحکم الفقهیّ؛ الاستفادة من الأنفال فی عصر الغیبة عند الشیعة"، خلُص کلٌّ من "محمّد أمینی فر" و"زینب مشکاتی" إلى الآتی: "... بما أنّ الأنفال -فی ضوء المقالة- من المؤسّسات الحکومیّة، فإنّ الرأی الصحیح فی الحکم بجواز تصرّف عامّة الناس فی الأنفال فی عصر الغیبة أو عدمه، یتمثّل فی عدم القول بإطلاق التحریم أو الإباحة المطلقة، والأفضل القول بالتفصیل؛ من خلال التمییز بین نوعَین من الحکم (السلطة) فی عصر الغیبة، وتوقّف حکم جواز تصرّف العموم من الأنفال من عدمه علیهما.
فلا تخلو السلطة الحاکمة من إحدى الحالتَین:
- الحکومة الإسلامیّة؛ کما هو الحال بوجود قائدٍ جامعٍ للشرائط، وفی هذه الحالة لا یجوز التصرّف فی تلک الأموال مطلقاً إلا بإذن الحکومة؛ وبعبارةٍ أخرى، فإنّ ضمّ تلک الأدلّة التی تُثبِت اختصاص الأنفال بمنصب الإمامة والولایة فی عصر حضور المعصوم إلى أدلّة ولایة الفقیه التی تُثبِت صلاحیّة تصرّف الفقیه الجامع للشرائط؛ بوصفه قائداً للمجتمع فی الأنفال، ونفاذ أمره فیها، واشتراط إذنه فی الاستفادة منها.
- الحکومة غیر الإسلامیّة، عندئذٍ یُباح تصرّف العامّة فی الأنفال بقدر الحاجة والضرورة فی المناکح والمتاجر والمساکن"[27].
نلاحظ -إذاً- وجود أوجُه تشابهٍ بین ما ورد فی هذه المقالة، وما توصّل إلیه الدکتور "کریمی"؛ إذ یرى عدم إمکانیّة تفویض أمر الاستفادة الفردیّة من الأنفال للشیعة، فی ظلّ وجود إدارةٍ شیعیّةٍ منسجمةٍ ومتماسکةٍ -والتی عبّرنا عنها بالحکومة الإسلامیّة المستقرّة- من دون إنکار الاختلافات بین النظریّتَین.
خاتمة:
نستنتج من مجموع ما تحصَّل فی صلاحیّات الولیّ الفقیه -بناءً على ما ورد فی کلام الإمام الخمینیّ (قده) وکبار فقهاء الإمامیّة- أنّ الولیّ الفقیه یقوم مقامَ الأئمّة المعصومین (عله)، ویعود إلیه أمر التصرّف فی الأنفال فی ظلّ وجود الحکومة الإسلامیّة فی عصر الغیبة.
وفی المقابل، فإنّ ما نشهده الیوم عملیّاً فی المجتمع الإسلامیّ یتّسق مع الرأی المذکور؛ إذ لا یحقّ لأیّ شیعیٍّ فی عصرنا التصرّف فی الأنفال من دون إذن الحکومة الإسلامیّة والولیّ الفقیه؛ الأمر الذی یستلزم انتقال ملکیّة الأنفال من الرسول (ص) وأئمّة الهدى (عله) إلى الولیّ الفقیه فی عصر الغیبة؛ ما یحقّق فرضیّة إمکانیّة وقف الأنفال عملیّاً من قِبَل الولیّ الفقیه.
وبناءً على ما تقدّم فی هذه المقالة، یمکن استخلاص النتائج الآتیة:
- الأنفال جزءٌ من أموال المجتمع الإسلامیّ.
- تعود ملکیّة الأنفال إلى الله وإلى رسوله (ص).
- ینتقل حقّ التصرّف فی تلک الأموال إلى الأئمّة الأطهار (ع) بعد الرسول (ص).
- أموال الأنفال رهنٌ بمنصب الإمامة، لا حقّ للورثة النسبیّین فیها إلا مع شرط الإمامة.
- فی ظلّ قیام الحکومة الإسلامیّة فی المجتمع، یعود حقّ التصرّف فی تلک الأموال إلى الولیّ الفقیه والحاکم الإسلامیّ.
- إنّ امتلاک الولیّ الفقیه والحاکم الإسلامیّ حقّ التصرّف فی الأنفال یتیح له وقفها.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من إیران.
[2] ابن فارس، أحمد: معجم مقاییس اللغة، تحقیق: عبد السلام محمد هارون، مکتب الإعلام الإسلامی، 1404هـ.ق، ج5، مادّة "نَفَلَ"، ص455-456.
[3] انظر: ابن مکرم، محمد: لسان العرب، قم المقدّسة، نشر ادب حوزه، 1405هـ.ق/ 1363هـ.ش، ج11، ص670.
[4] الأصفهانی، الحسین (الراغب): مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق: صفوان عدنان داوودی، ط2، قم المقدّسة، مطبعة سلیمانزاده؛ نشر طلیعة النور، 1427هـ.ق، مادّة "نَفَلَ"، ص820.
[5] سورة الأنفال، الآیة 1.
[6] سورة الإسراء، الآیة 79.
[7] سورة الأنبیاء، الآیة 72.
[8] الحرّ العاملی، محمد بن الحسن: وسائل الشیعة، تحقیق ونشر: مؤسّسة آل البیت (ع) لإحیاء التراث، ط2، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1404هـ.ق، ج9، باب1 من أبواب الأنفال، ح1، ص523.
[14] وسائل الشیعة، م.س، ج9، باب2 من أبواب الأنفال، ح3، ص536.
[15] م.ن، باب1 من أبواب الأنفال، ح8، ص526.
[17] انظر: م.ن، باب1و2 من أبواب الأنفال، ص523-537.
[18] الحلّی، جعفر بن الحسن: شرائع الإسلام، تعلیق: صادق الشیرازی، ط2، قم المقدّسة، مطبعة أمیر؛ طهران، انتشارات استقلال، 1409م، ج4، ص791.
[19] الخمینی، روح الله: تحریر الوسیلة، ط2، النجف الأشرف، دار الکتب العلمیة؛ مطبعة الآداب، 1390هـ.ق، ج1، ص368-369.
[20] الطباطبائی، محمد حسین: المیزان فی تفسیر القرآن، لا ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامیّ التابعة لجماعة المدرّسین، لا ت، ج9، ص8.
[23] النجفی، محمد حسن: جواهر الکلام، تحقیق وتعلیق: عباس القوچانی، ط2ن طهران، دار الکتب الإسلامیّة؛ مطبعة خورشید، 1365هـ.ش، ج16، ص133.
[24] القمّیّ، محمّد مؤمن: "ولى امر و مالکیت اموال عمومى" [ولیّ الأمر ومالکیّة الأموال العامّة]، مجلّة فقه أهل البیت (عله) (بالفارسیة)، فصلیّة تخصّصیّة، تصدر عن مرکز الغدیر، قم المقدّسة، العدد63-64، السنة16، پاییز و زمستان1389هـ.ش،ص63.
[25] المطهّر، الحسن بن یوسف (العلامة الحلّی): منتهى المطلب، تحقیق ونشر: مجمع البحوث الإسلامیّة، ط1، مشهد المقدّسة، مؤسّسة الطبع والنشر فی الآستانة الرضویّة المقدّسة، 1423هـ.ق/ 1381هـ.ش، ج8، ص583.
[26] کریمی، عبّاس: "استثمار الأنفال"، مجلّة الحقوق (بالفارسیة)، تصدر عن جامعة طهران، العدد435، 1378هـ.ش.
[27] أمینی فرد، محمّد؛ مشکاتی، زینب: "أثر الحکومة السیاسیّة على الحکم الفقهی؛ الاستفادة من الأنفال فی عصر الغیبة عند الشیعة"، مجلة الحکومة الإسلامیّة (بالفارسیّة)، فصلیّة تخصّصیّة، تصدر عن مجلس الخبراء فی الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة، السنة18، العدد69.